القاهرة/ مقديشو برس
بقلم: د. محمد حسين أبو الحسن
فى تحول ينذر بانقلاب التوازنات الجيو إستراتيجية فى منطقة القرن الإفريقي؛ أعلن الرئيس الصومالى حسن شيخ محمود أنه (لن يمانع) فى وصول إثيوبيا إلى البحر الأحمر والمحيط الهندى، لكنه لن يسمح لها بإنشاء قاعدة عسكرية فى أراضى الصومال، تحت أى ظرف.
كان شيخ محمود شن حملة دبلوماسية؛ منذ يناير الماضى، رفضا للاتفاق بين أديس أبابا مع جمهورية «أرض الصومال» المعلنة من طرف واحد، يمنح إثيوبيا منفذا ساحليا بطول 20 كم حول ميناء بربرة لأغراض اقتصادية وعسكرية، مقابل اعتراف إثيوبيا باستقلال «أرض الصومال» غير المعترف بها دوليا. إذ اعتبر شيخ محمود الاتفاق انتهاكا لسيادة بلاده ووحدة أراضيها، وعملا عدوانيا بمنزلة إعلان حرب يهدد الاستقرار الهش بالقرن الإفريقى، وتعهد بأن الصومال لن تتنازل عن شبر واحد من أرضها وبحرها لأديس أبابا، وطرد سفيرها من مقديشو.
هذا الموقف الصومالى وجد تفهما ودعما من مصر ودول عربية وإفريقية وتركيا والاتحادين الإفريقى والأوروبى، بينما ألمحت الولايات المتحدة إلى عدم اعتراضها على التمدد الإثيوبى.
لكن يبدو أن مياهها جرت فى النهر وتبدلت الاتجاهات، ألقى الرئيس الصومالى الكرة فى الملعب الإثيوبى، قدم عرضا يلبى عدة أهداف: إعطاء أديس أبابا ميناء بحريا يخضع للسيادة الصومالية،لإحباط سعيها إلى وجود عسكرى دائم يمزق وحدة الصومال، وإفشال محاولات «أرض الصومال» انتزاع الاعتراف الدولي. فوق هذا وذاك يأمل شيخ محمود فى إحراج الداعمين الإقليميين والدوليين للمطلب الإثيوبى، وعلى رأسهم الولايات المتحدة؛ جعل ظهر رئيس الوزراء الإثيوبى مسندا للحائط، دون حجة مقبولة لرفض عرض شيخ محمود، فالصومال ليست حجر عثرة أمام التنمية بإثيوبيا، بالإضافة إلى أن أى اتفاق لتأجير مناطق بالشواطئ الصومالية يحقق منافع مالية واقتصادية يحتاجها الاقتصاد الصومالى، ناهيك عن تقليل التوترات فى المنطقة.
لم تظهر إثيوبيا دليلا حتى الآن على قبول عرض شيخ محمود؛ ما يعنى استمرارها فى تطبيق مذكرة التفاهم مع «أرض الصومال»، لاسيما أن العرض الصومالى الجديد مشروط بعدم إقامة أى قواعد عسكرية إثيوبية، مع أن إثيوبيا ترى العرض الصومالى الأخير مكسبا كبيرا لرؤيتها الإستراتيجية؛ يحمل تفهما لمطالبها بمنفذ بحرى فى الجوار، ويمهد الطريق لاحقاً للوصول إلى اتفاقات أشمل تسمح لها ببناء قواعد عسكرية، وفصل وتحييد الجانب الإريترى عن الخلاف مع الصومال. الأهم بالنسبة لإثيوبيا أن اتفاقا من هذا النوع يفتح الباب لتحقيق هدف إستراتيجى، إحداث انقسام عميق فى الصومال؛ بقاء الصومال موحدا يعنى مطالبته بإقليم أوجادين الذى تحتله إثيوبيا، ولو استقرت أوضاع الصومال، بموارده وموقعه الإستراتيجى، سيصبح أخطر منافسى أديس أبابا على زعامة القرن الإفريقي؛ لذلك تبذل قصارى جهدها لكيلا يتحقق استقرار الصومال فعليا، تغرقها فى المشكلات والانقسامات وتتدخل عسكريا فى أراضيها.
تفيض ذاكرة الصوماليين بذكريات أليمة مع الإثيوبيين، يدفعون فاتورة باهظة لتوجهات قوى إقليمية ودولية– إسرائيل وأمريكا بالدرجة الأولى- تقدم الدعم لإثيوبيا، لجعلها دولة مهيمنة فى المنطقة، تستغل إثيوبيا هذا الدعم لإطلاق العنان لأطماعها فى أراضى وموارد دول الجوار؛ أعلنت تأسيس قوات بحرية ضخمة، مع أنها دولة حبيسة بلا شواطئ، للمشاركة بفاعلية فى المخططات والتحركات الدولية، فى مدخل المحيط الهندى وباب المندب والبحر الأحمر، أمنيا وعسكريا واستخباراتيا، تطرح نفسها «حارسا» للمصالح الغربية فى المنطقة، وتعمل على مواجهة الإستراتيجيات والمصالح العربية قرب أخطر وأهم ممر ملاحى عالمى، ما يتسق مع الموقفين الإسرائيلى والأمريكي.
نجاح الطموح الإمبراطورى الإثيوبى مرهون بضعف الآخرين وإيجاد موطئ قدم على البحر، قال آبى أحمد إن الحصول على منفذ بحرى «مسألة وجودية، البحر الأحمر هو الحدود الطبيعية لإثيوبيا، الإثيوبيون لا يمكنهم أن يحيوا داخل هذا (السجن الجغرافي). يسوق النظام الإثيوبى هذه المزاعم قنابل دخان كثيف؛ لتمرير مخططاتهم وأطماعهم التى لا تهدأ فى مقدرات الآخرين. مع أن كينيا وافقت على التفاوض لتدشين مشروع نقل إقليمى (لابسيت) بين كينيا وإثيوبيا وجنوب السودان، ركيزته ميناء لامو أو مومباسا على المحيط الهندي؛ ما أشعل الخلافات مع جيبوتى التى تمر عبر موانيها 95% من التجارة الإثيوبية مع العالم. بينما تشعر إريتريا بقلق بالغ من تصاعد الطموحات الإثيوبية وإمكانية عودة التوترات بينهما؛ ما دعا الاتحاد الإفريقى إلى حثّ جميع الأطراف فى القرن الإفريقى على «ضبط النفس ووقف التصعيد».
آخر المراوغات الإثيوبية، كانت طلب رئيس الوزراء الإثيوبى، فى أثناء زيارته العاصمة التركية مايو الماضى، وساطة أنقرة فى النزاع مع الصومال حول الاتفاق مع «أرض الصومال»، وبالفعل استضاف هاكان فيدان وزير الخارجية التركية، نظيريه الإثيوبى والصومالى فى أنقرة، دون نتيجة تذكر. لا تنظر تركيا بارتياح إلى الاتفاق، تشارك مصر والسعودية موقفهما من الاتفاق مع «أرض الصومال»، وقعت تركيا اتفاقية للدفاع مع الصومال، تقدم أنقرة بموجبها الدعم الأمنى البحرى للصومال لمساعدتها فى الدفاع عن مياهها الإقليمية، أما أبرز المواقف المؤيدة للصومال والمعارضة للاتفاق مع إثيوبيا، فهو الموقف المصرى، عبرت القاهرة عن الدعم الكامل للصومال، مصر حليف دائم للصومال.
يحاول الصوماليون زحزحة الخطر الإثيوبى، بشتى السبل، لكن الصومال وحدها قد تصبح فريسة سهلة، ومن ثمّ على أشقاء الصومال وحلفائه أن ينتبهوا قبل أن يتمزق ويتبخر من الوجود، ساعتها لن تكون مقديشو آخر الضحايا.
المصدر: الأهرام