مقديشو برس
إعداد: سيد عمر معلم عبد الله
كاتب ودبلوماسي صومالي
تمهيد
متابعاتي الأخيرة المحدودة في إثيوبيا، جعلتني استدرك وجود فجوة معرفية متسعة بين الصومال وبين إثيوبيا من نواحي عديدة وليست فقط في الناحية السياسية وهي فجوة تحول بيننا وبين الفهم للوضع الذي تمرّ به إثيوبيا بقيادة د. أبي أحمد وارتباط ذلك بماضيها السياسي المعاصر والقديم أيضا. وربما من اللائق القول بأنه، بالقدر الذي تعرف إثيوبيا الصومال تعرف الصومال بقدر أقل وأدنى بكثير لإثيوبيا الدولة. والتباين القائم في المستوى المعرفي بين الدولتين ليس سببه انشغال الصومال بنفسها وعجزها عن المسايرة المعرفية بمحيطها الإقليمي وجوارها الجغرافي في الفترة الأخيرة، وإنما يوجد رغم تضمن ذلك السبب المشار إليه إلى أسباب أخرى عديدة جعل ميزان المعرفة مائل لصالح إثيوبيا في المرحلة القريبة على الأقل. ويمكن القول بأن معرفة إثيوبيا المعلوماتية– في جانبه الأقوى- للصومال جعلها قادرة على وضع مخططات عامة واستراتيجيات سياسية مازالت فصولها نافذة المفعول في الصومال، ويمثل ذلك عاملا من عوامل القوة لديها تجاه ملف الصومال، وورقة سياسية رابحة في علاقاتها مع الدول المعنية بالشأن الصومالي مقدمة نفسها على أنها هي أكثر من يعرف الصومال من غيرها وتريد أن تمرّ من خلالها طرق الحلّ كما مرّت من عندها خطط إسقاط النظام العسكري سابقا، وتعمل بقوة على إضعاف النظم السياسية في البلاد.
والمعرفة المتبادلة التي يجب أن تسود بين الشعوب والدول خصوصا المتجاورة منها ليست سببها وجود حالة عداء أوجفاء يجعل كل طرف أخذ الحيطة من الآخر أو الاستعداد لحرب محتملة الحدوث بينهما، بل، على العكس من ذلك يوجد مجالات مختلفة أخرى تحتاج إلى الحد الأدنى من المعرفة وقابلة للتعاون عند السلم أوالاستفادة المتبادلة منها في فترات الوفاق بين أية دولتين متجاورتين، وذلك اعتبارا على ان علاقات الدول تقوم على أساسسها بين الوفاق المتقطع والجفاء غير المستمر وخاضعة للمتغيرات غير الثابتة في مساراتها المتعرجة. وفي كلتا حالتي التعاون والصراع، فان أهمية عنصر المعرفة المتبادلة بين الدول المتجاورة يبقى غيرمستغن عنه، وبدونها تفقد الدولة موقعها الجيوساسي في الإقليم وتسير من غير دليل معرفي في البيئة الإقليمية الآخذة في الاضطراب، أو بمعنى أدق، فإن المعرفة ضرورة لازمة لإدارة المصالح المتضاربة بين الدول أو التعامل مع حالة عداء قائمة بين الشعوب، خصوصا إذا كان هذا العداء قائما على أمور ثابتة مثل الأرض والسكان والمياه ومتصل برواسب تاريخية معقدة.
لماذا يجب علينا الاهتمام بمعرفة إثيوبيا
الاهتمام بمعرفة إثيوبيا هي ضرورة استراتيجية وأهمية سياسية للصومال والصوماليين بشكل عام، لأنه يوجد بين الصومال وبين إثيوبيا العديد من الروابط التي تدفع الإثنين بمعرفة بعضهم البعض عن قرب نتيجة أهمية ذلك على استقرار الدولتين ونهوضهما الاقتصادي ومستقبلهما السياسي على الأمد المنظور. ويمكن تقسيم تلك الروابط إلى روابط ثابتة تشتمل على أرض متنازع عليها بين الدولتين تصل إلى 28000كم2، وخط إداري مؤقت (حدود) يصل مداه إلى (1640كم)، ونهران نابعان من إثيوبيا (نهرجوبا 1808كم) و (نهرشبيلي 2526كم) وتصبان في الصومال، وثقل بشري (إقليم الصومال الغربي) يصل عدده قرابة 6 ملايين نسمة. والحدود التي تربط بين الدولتين هي الأطول من بين الدول المجاورة لهما، وهي حدود برية تمرّ جميعها بالأراضي التي يسكنها الصوماليون ووضعتها الدول الاستعمارية (إيطاليا وبريطانيا) تحديدا في عهد حكمها الاستعماري العابر (70 سنة) وتركتهما قصدا من دون تحديد معالمها أو اعتمادها إلي حدود نهائية بين الدولتين. وبالطبع، هناك روابط أخرى غير ثابتة ومتغيرة، وأغلبها ناتجة من العضوية المشتركة في المنصات الإقليمية والقارية والدولية وكذلك التحديات المتقاربة مثل الجفاف والفقر، وفي بعض الأحيان تقاسم القادة السياسيين بعض الرؤوى في الحكم والتشابة في سلوكهم القيادية، وهي كلها روابط يمكن أن يغلب تأثيرها السياسي على الروابط الثابتة المؤدية في الغالب إلى التوتر الحدودي أو العداء السياسي بين الدولتين، ويحول العلاقة فيما بينهما إلى فترة استقرارمثمرة في بعض المجالات الحيوية.
وقضايا الأرض والمياه والسكان الصوماليين القاطنين في جانبي الخط الإداري المؤقت الفاصل بين الدولتين، ينبع من عدم وجود حدود مرسومة بين الدولتين، ومن ثمّ يمثلون زوايا في صورة أشبه بمربع هندسي تكون فيه الأرض والسكان إلى جانب المياه وقضايا الحدود أضلاعه الأربعة المتساوية. والصومال تعتبر السكان الصوماليين والأرض التي يسكنونها جزءا من حدودها الإقليمية الطبيعية، وهي متمكسة بمبدأ الوحدة الأرضية والسكانية المشفوعة بالحقائق التاريخية والجغرافية مقابل الوحدة السياسية السائبة المسنودة بالحقيقة السياسية الجديدة التي تتمسك بها إثيوبيا الحديثة. ويعني بذلك، أن شكل هذ المثلث يعبر عن نقطة تقاطع بين الحق التاريخي (Historical Right) الذي تتبناه الصومال بثبات مع الحقيقة السياسية (Political Reality) التي تدفع بها إثيوبيا الإمبراطورية المعاصرة بإصرار، أو بمعنى أدق، فان وجهتي النظر الصومالية–الإثيوبية المتضاربة تعبر عن تعارض الحقيقة السياسية القائمة في إثيوبيا الحديثة مع الحق الصومالي الأصيل في المنطقة، وهو تعارض كرسته المنظمة الوحدة الإفريقية في قراراتها الصادرة منذ عام 1963 لصالح إثيوبيا. وفيما يتعلق بنهري جوبا وشبيلي، فإنها بدأت في عهد زيناوي حفر سدود مائية مستخدمة لتوليد الطاقة الكهرومائية وقامت بإنشاء مخططات كبيرة مخصصة لري مشاريع زراعية قومية تستهدف الزيادة المطردة في انتاجها الزراعي ورفع معدلات تصديرها الكمي إلى الأسواق الخارجية. وإثيوبيا، مستمرة في توسيع نطاق مشاريعها الزراعية وتتسابق مع الزمن لإنهاء تلك المخططات والسدود المائية في فترة دوران الصومال على نفسها وزيادة الاستقطاب الحاد في نخبتها السياسية، وتقوم تلك الخطوات كلها من دون التواصل مع السلطات الرسمية في الصومال، وهي تعلم أكثر من غيرها تأثير تلك الخطوات العكسية على حصة المياه في الصومال. وأحد الأسباب المؤدية إلى إنخفاض منسوب المياه إلى درجة الجفاف المتكررّ من فترة لآخرى وتراجع الانتاج الزراعي هو ناتج بالأساس من صرف المياه إلى مشاريع زراعية قومية وذلك على الرغم من وجود أسباب أخرى محلية ومتشابكة مؤثرة على وضع المياه.
والصومال، ترى الحدود القائمة مع إثيوبيا موروثا استعماريا تمّ وضعها من دون علم أصحاب الأرض الأصليين، وهو منطق متوافق مع الحجة التي تعتمدها إثيوبيا في تحججها تجاه مصر والسودان في موضوع مياه نهرالنيل، وتؤكد من حين لآخر أنها غير ملزمة باتفاق وقعته إثيوبيا في عهد استعماري زائل ومع دولة استعمارية غير موجودة حاليا في المنطقة. وإلى جانب تلك الروابط، فإن هناك ضرورة استراتيجية لمعرفة الصومال لإثيوبيا والاهتمام بالتطورات في داخلها، بل، واعتبار ذلك مصلحة وطنية من دون النظر إليها بعيون عدائية وإنما بعيون دولة جارة يوجد بيننا الكثير من الروابط والاهتمامات الواحدة وربما المصالح الحيوية والتحديات المشتركة. وإثيوبيا دولة إقليمية جارة، وهي الدولة الأكثر عددا (الثانية في القارة بعد نيجيريا) والأقوى عسكريا في الإقليم وأكبرها مساحة (1.1كم2) كما إنها الأسرع نموا في اقتصادها (7.2%) مع تحول اقتصادها إلى اقتصاد حرب نازف في منطقة القرن الإفريقي بأكمله، وهي العضو الإفريقي الوحيد المستقل الذي شارك في تأسيس الأمم المتحدة 1945، وحضر في جلسات عصبة الأمم الأسبق منها عام 1926، ولها تجارب ناجحة في تحقيق معدلات التنمية الاقتصادية، وجذب الاستثمارات الدولية، والحفاظ على وحدتها السياسية رغم النكسات السياسية المتكرّرة التي تعرضت لها، والنكبات الاقتصادية التي تجاوزتها. وإثيوبيا محتضنة لمقر الإتحاد الإفريقي الذي يعمل فيه أكثر من 2000 موظفا والمفوضية الاقتصادية الأفريقية التابعة للأمم المتحدة ومستضيفة في حدود 120 بعثة دبلوماسية على أراضيها، ولها قوات في جنوب السودان والصومال بأجندة المساهمة على الاستقرار الأمني في الإقليم، وتستضيف عاصمتها مرة واحدة على الأقل قمة للإتحاد الإفريقي، ولها طيران يجوب معظم أنحاء القارة الإفريقية والعالم، وهي بذلك دولة إقليمية تتأثر الصومال سلبا وإبجابا على أي تطورات يحدث في داخلها، ومن ثمُ ينبغي أن يتابع الصوماليون أمرها عن كثب.
واستغلت إثيوبيا حديثا غياب التوازن في ميزان القوى في المنطقة وظهور الانكشاف الاستراتيجي الناتج من زوال الدولة العثمانية من الخريطة الدولية في بدايات القرن المنصرم، وظهور القوى الاستعمارية الأوروبية في الإقليم في نهاية القرن التاسع عشر واستعطفت تلك القوى الاستعمارية في المنطقة باستدرار لا مثيل لها في القارة بأكملها، وقدمت لنفسها على أنها جزيرة في وسط محيط إسلامي يسعى إلى ابتلاعها ومحوها من الوجود ، ومن ثم فهي بحاجة إلى إسناد دائم لبقائها في خريطة الإقليم. ونتيجة لذلك، فان الاستعمار الأوروبي، حقق لإثيوبيا ثلاثة أمور ذات أهمية استراتيجية: الأمر الأول: أنه حولها من دولة صغيرة الحكم إلى إمبراطورية كبيرة الحجم، حيث ساعدها على توسيع حدودها السياسية شرقا وجنوبا وجعلها إمبراطورية محتوية على العديد من القوميات الحامية المسلمة في أغلبها بعد أن كانت دولة مسيحية منحصرة في نطاق المرتفعات والمنخفضات، ومكونة من مجموعات عرقية سامية، ومقاطعات جغرافية متناكفة فيما بينها ينتقل مركز حكمها بين الشمال والغرب، وبالتالي أصبحت في عهده الدولة الأكبر مساحة في المنطقة وأطولها حدودا من بين دول الإقليم الأعضاء الستة في منظمة ” إيغاد”، ومن ضمنها الصومال.
والأمر الثاني: أنه ساعدها على تحقيق رغبة قيادتها السياسية التي هي تحقيق الانسجام بين الهوية المسيحية للدولة والهوية الفردية للسكان، اعتقادا على ان ذلك يساعدها في ترسيخ الوحدة الوطنية، ومن ثمّ ساعدت على انفصال الكنيسة الإثيوبية من الكنيسة القبطية في مصر، وأطلقت الهيئات التبشيرية الغربية الرديفة للاستعمار يدها في تلك المناطق المسيطرة للقيام بنشاطاتها المعهودة حيث بنت الكنائس وحولت المساجد إلى الكنائس ودفعت السكان بالتحول إلى المسيحية وبالذات في المنطقة التي تكثر فيها قومية الأورومو وربطت ذلك حصولهم على بعض الحقوق المدنية والسياسية لهولاء السكان مثل التعليم والوظائف والمناصب الحكومية والخدمة العسكرية. ونتيجة لذلك، وصل عدد المسيحيين في مدينة هرر وحدها بـ 306000 فردا من أصل سكاني بالغ بـ 1517000 نسمة بعد أن كانت خالية من المسيحيين قبل استيلاء منيلك عام 1887م.
والأمر الثالث: وبسبب قلقها الشديد من الترابط البري والبحري في محور الصومال -إريتريا– السودان ومصر، واهتمامها المستمر لتعزيز مستقبل إثيوبيا؛ وفر لها مجموعة من الخبراء في مجالات مدنية وعسكرية أدت إلى انتشال إثيوبيا من دولة قديمة وجعلتها دولة حديثة وبالذات في مجال النظم الإدارية الحديثة والشؤون المالية وكذلك القانون والقضاء وبناء الجيش وقدم لها الأسلحة المختلفة ودعمها في مجال العلاقات الخارجية والحفاظ على مكاسبها السياسية. وهولاء الخبراء لم يكونو قادمين من الدول الاستعمارية المتنافسة في المنطقة فقط، بل قدموا من دول كانت بعيدة عن التورط في استعمار القارة مثل سويسرا واليونان وروسيا. والحروب العرقية المستعرة التي تتجددّ من حين لآخر وتدور رحاها الآن في إثيوبيا مصدرها هو كتف مجموعة من الشعوب والقوميات الكوشية مثل الأورومو والعفر والصوماليين وغيرهم بالقوة ورميها إلى حضن امبراطور منيليك من دون موافقتها، وفرض اللغة الأمهرية عليهم واستلاب ثرواتهم الطبيعية بفظاعة، وحولت سلالته أراضيهم تلك ما بين ثكنات جيش وسجون حربية ومحاكم عسكرية ونقاط تفتيش ومراقية ومقر مخابرات عامة حى اصبحت اثيوبيا الدولة من عهد منيلك وما بعده إثيوبيات متمايزة من حيث التنمية والاستقرار والإزدهار والتجانس في اثيوبيا واحدة.
مرحلة ما بعد الاستقلال
ولدت دولة الصومال وهي فاقدة بعضا من أجزائها الرئيسية وبدأ مع استقلالها حالة ذهول ناجم عن عربدة الاستعمار على أرضها وتفكيك تسيجها القومي، والأكثر من ذلك، وجدت نفسها أنه لا يوجد عندها حدود مرسومة بينها وبين الدول المجاورة في حينها والتي من بينها فرنسا في ذلك الوقت، ومن ثمّ بدأت رحلة طويلة لتصحيح تلك الأوضاع الموروثة من دون أن تعرف حجم المخاطر المحدقة في منعطفاتها، أو يكون عندها حليفا أمينا يساعدها في الوصول الآمن إلى مسافتها النهائية. والصومال، اعتبرت الوحدة المحققة بين الشمال والجنوب بداية طموحة لوحدة أوسع تشمل على امتداد سكان الصوماليين في منطقة القرن الأفريقي بأكملها. والمجهودات الصومالية المتعددة الاتجاهات اصطدمت بمجموعة من الحقائق الواقعية في الميدان رغم وجاهة فحواها عند الاستماع إليها. ومن تلك الحقائق أن المنظومة الدولية التي تشكلت في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية لم تجرم فعل الاستعمار ولم تنكر الأوضاع التي خلفتها تلك الدول المستعمرة. والدول الرائدة في ما نظام ما بعد الاستعمار هي نفسها التي قامت باستعمار أكثرية الشعوب في العالم النامي والتي كانت الصومال من ضمنها. ودعت تلك المنظومة من سان فرانسيسكو إلى الحرية في الشعوب وحق تقرير المصير في الأمم وليس تصحيح الأوضاع السياسية الناجمة عن حكم الاستعمار باعتبارها جريمة ارتكبت بحق الانسانية، ومن ثمّ فُهِمَ على أن ما تقوم به من حين لآخر هوا اعتداء مباشر على سيادة الدول الأعضاء في المنظومة القارية (منظمة الوحدة الإفريقية) والدولية (الأمم المتحدة)، وليس على استعادة أرضا لها
وبالإضافة إلى ذلك كانت الصومال وحيدة في المطالبة بحقها الأرضي الضائع ورفض أن تقبل الحدود التي تركها الاستعمار في القارة وكانت عاجزة على فرض حل عسكري باستعادة حقها الضائع ولم تجد كذلك من بين الدول الأعضاء بما فيها الدول الإسلامية الأعضاء معها في منظمة الوحدة الإفريقية من يقف إلى جانبها رغم إبداء التعاطف إزائها، وأدركت لاحقا إنها تحتاج إلى حليف دولي يساعدها على استعادة أرضها ولم تنجح هي في الاحتفاظ بها طويلا رغم فوزها على كسبه من الأول وتوقيع معاهدة الصداقة معه وهو الاتحاذ السوفييتي. والصومال، اعتمدت نهجا دبلوماسيا متصلبا في رحلة سعيها إلى استعادة الأرض، وكانت تريد استعادة كاملة لأراضيها المفقودة من جميع الجهات، وعلاقتها الدبلوماسية مع الدول الغربية ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن ساد فيها التوتر شبه الدائم وغلبت فيها البرودة في أغلب الأحيان أومنقطعة في بعض المرات، حيث انقطعت العلاقة الدبلوماسية بينها وبين بريطانيا بسبب موقفها في قضية الاستفتاء التي تمّ إجراؤه عامي 1948، و1963م في منطقة المعروفة باسم NFD التابعة حاليا لجمهورية كينيا، وساءت علاقاتها مع فرنسا بسبب وجودها الاستعماري في جيبوتي ودعم الصومال لجبهة التحرير وكذلك الولايات المتحدة بسبب عدم التجاوب مع مطالبها المتمثلة في بناء جيشها الوطني وذلك على الرغم من العجز شبه الدائم في في ميزانيتها السنوية.
وأكثر من هذا أن الحق يحتاج إلى قوة منطقية في التعبير، وبيانا لغويا في تقديمه، واثباتات داعمة لصحته، وتنسيقات مسبقة مع القادرين على مساعدة حله وطروحاتهم للحلّ. والصومال في رحلة البحث عن حقها المفقود واجهت مصاعب جمّة في تأطير حدود حقها أمام الآخرين وتثبيت طرق التعاون مع شركائها في الحق (الأورومو وإريتريا) وتحديد آليات الشراكة ومستوى التعاون معهم، وحسم الخيارات التي يجب سلوكها لاسترداد الحق ذاته وسقف الدعم للجبهات والشركاء في الجبهات الميدانية. ويعكس ذلك الخلافات السياسية السائدة بين القيادة حول ما إذا كان يجب الاكتفاء بتقديم الدعم للجبهات دون الانضمام الفعلي إلى صفوفهم القتالية أم يجب الدمج بين الاثنين، وهل يترك للجبهات السياسية بالتفاوض والتواصل مع الوسطاء أوحتى مع الدول نفسها في حالة وجود مرونة في مواقفها أم إنها مطلوبة في التركيز على الضغط، ويترك لمقديشو بالحلول والتسويات السياسية.
وحاولت بريطانيا منح فرصة للصوماليين -ولومن باب جس النبض- وعرضت عليهم فكرة التعاون معهم على تحقيق حلم الوحدة القومية باستثناء جيبوتي في عام 1948، ولكنها لم تفلح بسبب فقدان الثقة في جدية طرحها وانحيازها السابق إلى الطرف الإثيوبي والكيني في المواقف السابقة بينها وبين الصوماليين. ولم يكن الموقف مختلفا كثيرا وقت مجىء اللجنة الرباعية المبتعثة من العالم المنتصر للوقوف على أوضاع المستعمرات التي كانت في حوزة إيطاليا المنهزمة في الحرب، ومعرفة اتجاهات الراي العام المحلي. ومن الملفت للنظر، إن العرض الذي سمعتها أو المواقف السياسية التي شهدتها لم تكن على المستوى الذي يشجعها بإتخاذ موقف لصالح قضية الصوماليين، ورأت اللجنة انقساما في الرأي بين القوى السياسية وغياب فهم كاف للبيئة الدولية والإقليمية الجديدة. ومن نتائج تقريرها عودة ايطاليا إلى الجنوب، وترك الجزء الشمالي لتحديد المستقبل بنفسه وحسن التخلص في قضايا الصوماليين في المنطقة، ومنح الأراضي الصومالية في الغرب لإثيوبيا على مراحل كنوع من النكاية على الصوماليين. وفي عهد حكم العسكر، فان الإتحاد السوفييتي الذي كان الحليف الاستراتيجي الأوحد للصومال، كان يرى أن قضية الصوماليين في المنطقة من أحد القضايا التي تركتها الإمبريالية لتعود إليه حينما تريد، وكان يريد وضع ثقله ونفوذه السياسي في النزاع القائم بين الصومال وإثيوبيا، ولكن الصومال استعجلت موقفها وخضعت لضغوط أمريكية وإغراءت إقليمية دفعتها إلى أن تحذو خذو مصر في إنهاء علاقتها مع السوفييت وتبددّت نتئائجها المأمولة في موعدها المحّدد، واقتنع بأن إثيوبيا أكثر ثورية من الصومال وهي أكبر وزنا من الصومال في ثقلها السياسي في المنطقة رغم أن الأخيرة أكثر أهمية في موقعها الجيوبوليتيكي، وأن تبنيها للنظام الاشتراكي هو تكتيك مرحلي، وأن القرار الذي اتخذته الصومال في إنهاء وجود الاتحاد السوفيتي كان مفاجئا ومهينا إلى حدما وبعيدا عن توقعاته، وبالإضافة إلى هذا، فإن مساعي الوسيط الكوبي– فيدل كاسترو- في تحويل مصادر الصراع إلى فرص للتعاون عن طريق خلق الكتلة الاشتراكية في المنطقة في ضفتي مياه خليج عدن تبخرت من دون ترك الباب مواربا إلى العودة عند الضرورة .
والمساحة التي تركتها إثيوبيا للصومال كانت محدودة للغاية، حيث إنها عارضت قضية الوحدة بين الشمال والجنوب ودعت الجنوب الذي كان في حوزة الحكم الإيطالي الانضمام إلى إمبراطورتيها، ووقعت مع كينيا اتفاقية الدفاع المشترك من أجل احتواء الصومال وعزلها السياسي، وأنكرت كذلك صحة المطالب الصومالية التي تؤكد على أن وجود الصوماليين في أرض الصومال الغربي بالذات أصيل وقديم. والفترة التي أبدت الصومال المرونة في الموقف وأعلنت إلتزامها على التقيد بالوسائل القانونية المنصوصة في دستورها في قضايا المتنازع عليها لم تتجاوب معها إثيوبيا بجدية، واعتبرته مناورة سياسية أكثر مما هي تغير جدي في الموقف. وعلى النقيض من ذلك، صوّرت إثيوبيا الصومال على إنها تسير ضد الإجماع الإفريقي والقانون الدولي وتسعى إلى التوسع في أراضي الدول المستقلة ولا تريد الالتزام بمضمون القرارات الدولية الداعية إلى الحفاظ على الحدود المورورثة من الاستعمار الاوروبي. وبعد احتلالها للإقليم، تعاملت مع سكانه من منظور عدائي صرف، وفرضت عليهم حكما عسكريا سيئ السمعة، ومن ثم أصبح من الأقاليم الأكثر تخلفا في مجال الخدمات الاجتماعية وقضايا التنمية الاقتصادية والأكثر فقرا في معدل الانتاج المحلي، مع أنه في المرتبة الثانية (25.3%) من حيث المساحة على مستوى البلاد بعد إقليم أوروميا المجاور(25.8)، ويمثل سكانه الصوماليون القومية الثالثة من حيث العدد بعد الأوروما و الأمهرا .
كيف تعاملت إثيوبيا مع الصومال في مرحلة ما بعد الاستقلال
تتعامل إثيوبيا مع الملف الصومالي من منطلقين استراتيجيين مترتبطين ارتباطا وثيقا: الأول أنها تعمل على وأد عودة الصومال المستقر الذي يمكن أن يشكل تهديدا مباشرا لمكاسبها الاستراتيجية، ووحدتها السياسية المحققة لديها في عهد الا ستعمار الأوروبي. وإثيوبيا متخوفة من أن يعود الارتباط العضوي بين الصومال والصومال الغربي الذي تعرفه بأنه الإقليم الخامس مع عودة الصومال الموحد المستقر خصوصا مع اكتشاف البترول فيه من سواه. وفي سبيل تحقيق ذلك، حولت إقليم الصومال الغربي برمته إلى منطقة عسكرية يتمركز فيه أكبر عدد من قواتها وبنت فيها قواعد ومطارات عسكرية محصنة بلغ عددهم 30 قاعدة عسكرية بعد الحرب الموقعة بينها وبين الصومال عام 1977-1978، ودفعت ما يقارب من 800,000 صوماليا بالنزوح إلى داخل الصومال، وذلك بهدف فك الارتباط العضوي بين الصومال الدولة وإقليم الصومال الغربي وفرضت ثقلها السياسي على فرض الثقافة الإثيوبية وولت وجهته إلى أديس عوضا عن ارتباطه الأصلي مع الصومال. وبالتوازي مع ذلك بدأت استقطاب أقطاب المعارضة في النظام ووزعماء الجبهات السياسية على أراضيها وتوفير الدعم اللازم لهم بدءا من التدريبات والأسلحة والتسهيلات اللوجستية وصولا إلى منحهم اسناد جويا في العمليات العسكرية وغطاء دبلوماسيا في تحركاتهم السياسية. ولاحقا، انتقلت دائرة الصراع بين الدولتين من إطار الصراع على قضايا أساسية (الأرض والسكان) إلى اشتباكات عسكرية بين الجبهات والجيش تحدث من حين لآخر في الحدود وتحول الخط الإداري المتنازع عليه إلى حدود في أمر الواقعDe facto Border .
ويتزامن ذلك في عهد انشغل النظام بالتعامل داخليا مع الأوضاع الناتجة في مرحلة ما بعد الحرب من تأمين الحدود واستيعاب اللاجئين وحماية النظام من السقوط نتيجة ولادة جبهات نائشة مع نهاية الحرب. وأدت تلك الجهود المتوازية إلى سقوط النظام بعد حروب دامية بينها وبين النظام استمرت أكثرمن عقد من الزمن وأسفرت عن خسائر بالغة في الأرواح لم يتعافي الصوماليون بعد من تبعاتها الصعبة. وربما ماقاله سفيرDr. Asmamaw Qelemu عند عودته من مقديشو إلى أديس أبابا بصفته آخر سفير لإثيوبيا في الصومال قبل الإنهيار عام 1991م يؤكد على هذ الأمر، قائلا: بأن الشيء الأهم هو، أن الصومال الخطرة على إثيوبيا لم تعد موجودة بعد اليوم “” The important thing is that Somalia is dangerous is no more “، وتلك شهادة تثبت ماكانت السفارة الإثيوبية في مقديشو تعمل من جهود فاعلة نحو سقوط الدولة وانهيار مؤسساتها.
والثاني إنها تعمل وسط تلك الأوضاع الانتقالية في الصومال على تأمين مصالحها الحيوية وحماية مصالحها الاقتصادية خصوصا بعد توقف الاعتماد على موانئ إريتريا بعد الحرب بينهما منذ 1997م وارتفاع التعريفة الجمركية في ميناء جيبوتي بعد عام 2000، ومن ثم تسعي إثيوبيا إلى إيجاد موانئ بحرية في الإقليم يتناسب مع عدد سكانها الأكثر وحدودها الأطول في المنطقة ويمكنها من تنويع مصادر أمنها الاقتصادي وفي نفس الوقت يقلل من ارتفاع التكلفة الجمركية في خزانة الحكومة وتجارتها الدولية. وإثيوبيا سلكت عدة طرق مختلفة لتحقيق استراتيجيتها وشملت تلك الطرق على اعتبار دعمها للجبهات استثمارا سياسيا يجب استغلاله على أفضل وجه في تحقيق أجندتها السياسية تجاه الصومال على المد البعيد، وتعاونت مع الجبهات ببراغماتية عدوانية في دعم أجنداتها السياسية المختلفة حيث أن الجبهة التي تريد الحرب تقدم لها الذخيرة والأسلحة اللازمة والأخرى التي تريد الانفصال عن الصومال تساعده على أجندتها الانفصالية مادام أن ذلك يدخل في إطار قضايا تأمين الحدود ودعم هدفها الاستراتيجي الثابت. وفي تفاعلها مع الأزمة السياسية عقدت قرابة 5 مؤتمرات للصومال (1992،1993،1997، 2000) لفرض أجندتها السياسة التفكيكية وإيجاد حلول لقضية اللاجئين المتدفقين إلى أراضيها، وركزت على إبقاء الملف السياسي في يديها وجعله ملفا إفريقيا خالصا وحرصت بشدة على إبعاد الدور الإسلامي في العمل على حلحلته وعملت على إفشال أي مؤتمرات متناقضة لأجندتها السياسية بالعلن، ولم تتواني مرّة عن التدخل العسكري السافر لدعم فصيل سياسي ضد آخر تطبيقا لنظرية ” إعطاء الحرب فرصة ” التي طبقتها الولايات المتحدة في العديد من الدول بتنظير من كنسجر وذلك بهدف إنهاك الطرفين المتحاربين وخروجهما من الحرب خاسرين . وفي تعاملها مع الطبقة السياسية، فإنها تختار ضحايا النظام السابق العسكري بطريقة أوبأخرى من غيرهم وتستعدي المؤمنين بمبدأ الصومال الكبير أو الصومال الموحد إلى جانب الحاملين على الأيديلوجيا الإسلامية الطامحة إلى استعادة مجد الإسلام المتضعضع وتعاون أبنائه الصحي في المنطقة. وإثيوبيا باعت لشركائها في قضية الصومال على أن النموذج الفيدرالي هو الحل الأنسب في مسيرة إعادة بناء الدولة الصومالية، وقد يكون هذ النموذج مستنسخا عن النموذج الفيدرالية العرقية التي تعتمدها هي منذ التسعينيات في القرن المنصرم وهو نموذج لم يقدم معالجات حقيقية على مشكلات الاندماج البيئي التي تعاني منها إثيوبيا منذ الضم القسري للقوميات الشرقية والجنوبية إلى إثيوبيا المسيحية القديمة.
وإثيوبيا تجاهر على أن البنية الأساسية للصومال هي بنية قبلية بالأساس وهي بينة فاعلة في تركيبة المجتمع الصومالي وأقواها تأثيرا في تماسك المجتمع، ومن ثمّ فإن القبيلة هي اللبنة الأساسية في العمل السياسي المشترك وبالتالي فأن إعادة البناء يجب أن تبدأ من تلك اللبنات والوحدات السياسية (Building Blocks) حتى تنتهي إلى الأعلى وليس العكس، وهي رواية مضلّلة في طرحها وخطيرة في مقصدها وتريد من خلالها تكريس الانقسام المجتمعي والتسويق على أن الصوماليين لم يصلو بعد إلى مستوى من التقدم الاجتماعي يمكنهم التوافق على عمل سياسي مشترك مادام أنهم منقسمون إلى وحدات قبلية مستقلة عن بعضها البعض في السكن ومتفاوتة فيما بينها في الطموح والهموم وربما التاريخ، وبالتالي فإنها تدفع بالإتجاه نحو التعامل المباشر المستقل مع تلك الوحدات في تحقيق استراتيجتها وتأمين مصالحها المختلفة. وإثيوبيا ذاهبة إلى المراجعة الشاملة لموقعها الإقليمي بما يتسق مع نمو سكانها وتنامي احتياجاتها الاقتصادية، وتعتبر ضمها القسري القريب في أجزاء من إريتريا واحتلالها بعض من أجزاء السودان سابقا ونفوذها في أجزاء من الصومال في القرون الوسطى مكاسب استراتيجية ضائعة يحب الاستعاضة عنها وليس أخطاء تاريخية لا يجب العودة إليها وهي تمارس بالميكافيلية في حماية مصالحها الحيوية وتحقيق أهداف خطتها التنموية العشرية المعتمدة في 2019، وتعاني من ثقل الديون (28 مليار دولار) على كاهلها وعاجزة عن السداد في موعدها المقرر وتراهن على الاستقواء بتحالفها مع الغرب وتسترها بثوب الاتحاد الإفريقي واستخدام مظلة إيغاد في تنفيذ خططها الإقليمية. وإثيوبيا، تعتقد على أن الدول تلجأ في مواقف استثنائية إلى طرق مجانبة للقوانين والإلتزامات الدولية كما فعلتها وتفعلها الدول بما في ذلك الدول في المنطقة، ومن ثمّ هي ترفض التراجع عن تعاملها المنفصل مع صومالاند في قضية ميناء زيلع وبربرة تحديدا دون الحصول على بديل أفضل ومصرّة في التواصل المستقل مع الولايات الصومالية في المواضيع الأمنية والتجارية بالأساس والتعاون مع السلطات الفيدرالية فيما لابدّ منه، وهي مستعدة في الذهاب إلى آخر المسافة مالم يكن هناك مانع ميداني أو وعي جمعي مدرك لمقاصدها الشريرة ومدرك للعبثية في الأنانية السائدة بين النخبة السياسية الصومالية.
خاتمة
ترتبط الصومال مع إثيوبيا بالعديد من الروابط الثابتة والمتغيرة التي تحتاج منها إلى معرفة كافية في درايتها لإيجاد طرق أفضل للتعامل معها على المدى البعيد والقريب. وأثيوبيا من جانبها حازمة في إدارة الراوابط بالطريقة التي يتوافق مع مصالحها الوطنية رغم اختلاف هوية نظمها السياسية. وتميز موقف إثيوبيا التاريخي بالبراغماتية في العلاقة والثنائية في سلوكها السياسي، وهي دولة حديثة التكوين في وضعها السياسي الحالي رغم أقدمية مكوناتها العرقية في المنطقة. والإزدواجية في السلوك أمر أصيل عندها، ويبدو ذلك من أنها دولة حديثة في مؤسسات حكمها وقديمة في نمط حياة شعبها، غنية في مواردها الاقتصادية وفقيرة في سعة قاعدة الفقر المدقع لدى سكانها، كبيرة في نفوذها السياسي في القارة الإفريقية وصغيرة في حجم صورتها الدولية، ديمقراطية في كثرة المنصات السياسية والمنابر الفكرية في داخلها أوتوقراطية في قمع الحريات وإمبراطورية في طغيان حاكمها السياسي، إسلامية في تجذر الإسلام والمسلمين في أراضيها وحكمه في قلب الهضبة بقرون متوالية ومسيحية في تعصبها المذهبي اليعقوبي بهويتها الثقافية وسلطة الكنيسة في حكم البلاد وعدائها السافر للإسلام، وغربية في هواها السياسي ومرجعيات مؤسساتها الصلبة والسيادية مثل الجيش والأجهزة الأمنية وشرقية في انتاجها الزراعي الصناعي الكمي، ترسل قواتها إلى دول الإقليم للمساهمة على حفظ الأمن واستتاب السلام وتمارس سياسيات مزعزعة للاستقرار العام ومغذية على النزاعات الداخلية بين القوى المحلية، ومن ثمّ يسود عندها الكثير من التناقض الذي ترك لها سلوكا مركبا مزدوجا في سلوك نظامها السياسي .
ومؤشرات وجود الإزدواجية في سلوكها السياسي يظهر في أكثر من مجال ، وقد يكون الأهم هو إقرار النظام الدائم على حق القوميات في تقريرمصيرها السياسي منذ عهد منعستو، وفي نفس الوقت منعها من ممارسة حقها الدستوري، إعلان النظام على إلتزامه بمبادئ الاتحاذ الإفريقي المنصوصة بالحفاظ على سيادة الدول وفي نفس الوقت اعتدائها المتكرّرعلى السيادة الدائمة في دول الإقليم، تمسكها بمبدء حرية التصرف في الموارد المائية العابرة للحدود باعتبارها ثروتها الخاصة وتجاهلها للقيمة القانونية للمعاهدات التي تنظم المياه العابرة بين الدول واعتبارها نتاجا استعماريا وفي نفس الوقت تشبثها بالحدود والأراضي التي منحها الاستعمار واعتبارها أرضا إثيوبية. وأهمية عنصر المعرفة والمعلومة العملية في بناء المؤسسات وإدارة شؤون الدولة لم تكن على مستوى التحدي والمرحلة طوال العقود الستة التي عاشتها الصومال مستقلة، والصومال دفعت فاتورة باهظة الكلفة في تساهلها في هذه النقطة أوتجاهلها لضروريتها في العمل العام وبالذات في مجال مساعيها الدبلوماسية وجهود بناء الحلف في قضيتها الأولية. وإثيوبيا لم تكن أفضل من الصومال بكثير حيث لم تتجاوز نسبة التعليم في عهد هيلاسلاسي عن 5%. وبهذا فإن تدراك قيادتها المبكر لأهمية المعرفة والسخاء الغربي الهادف إلى تثبيتها في المنطقة فضلا عن الاستقرار السياسي المستمر لديها عوضها عن هذ النقص بكثير. والصومال حققت الكثير من الإنجازات على الأصعدة العسكرية والسياسية، والضرّر الذي ألحقته الصومال بإثيوبيا في الجبهات العسكرية والمحافل الدبلوماسية لا يوجد له شبيه ولا نظير، ولولا استعداد السوفييت وهرولة كوبا لنجدة النظام لتعرضت إثيوبيا فيما يعرف بحرب 77؛ ضربة قاتلة في عقر دارها وهي ضربة تعرضت الصومال لارتداداتها في فترة لاحقة، وأدت إلى سقوط نظامها إلى الهاوية السحيقة وقرار الغزو الدموي إلى مقديشو 2006. وفرص التجاوز من مرحلة الانشغال والدوران حول الذات كثيرة، وأمام الصوماليين مستقبل واعد رغم عدم اليقين المحيطة به. ويكمن هذ المستقبل على أكثرية الفئة الشبابية التي لا تريد أن تكون أسيرة على ماض ثقيل على حمله وتريد أن تعيش كريمة في هيبتها القومية وتدارك دول الإقليم على الدور التخريبي الذي تقوم به في الإقليم. وشعوب المنطقة أدركت على أن إثيوبيا تسير ضد الإجماع الإقليمي ولم تعد مغترة بالوجه الناعم الذي أبداه د. أبيي في فترة استهلال حكمه من إطلاق الحريات العامة والاهتمام بالسلام الإقليمي ورفع قانون الطواري في البلاد، ولكن التحامل الدائم على الغير وتبرئة المتهم وإسقاط اللوم من الذات لا يساعد الوصول إلى هذ المستقبل المشرق بقدرما يثبط على الاقتراب نحوه، ومن ثمّ يجب على الهيئات الحكومية وغيرالحكومية أن تبدأ بعض الخطوات العملية التي تؤدي إلى معرفة إثيوبيا المجاورة وهي معرفة لا تقتصر على الاستعداد في مواجهة محقّقة في حالة غيها في الإعتداء على السيادة الصومالية واستمرارها في الاستفزاز غير المتوقف للمشاعر الصومالية، ولكن إلى جانب ذلك معرفة الوقوف على استراتيجتها وخططها، سياسياتها واحتياجاتها، تطوراتها وتحدياتها، نوعية قياداتها وحلفائها، وهي معرفة ينبغي أن تضيء لنا الطرق الصحيحية للتعامل معها على الوجه الأنسب باعتبارها جارا وقدراً أبديا .