سيد عمر معلم عبد الله: كاتب ودبلوماسي صومالي
يبدو أن الإعلان الذي أطلق عليه اسم ” إعلان أنقرة ” سيكون محطة فاصلة في تاريخ العلاقات السياسية المعاصرة بين الصومال وإثيوبيا في المرحلة المقبلة. وأكد الإعلان، التزام البلدين بقضايا السيادة الوطنية والوحدة السياسية فيما بينهما واحترامهما بمبادئ القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي في علاقاتهما الثنائية، وركز على القضايا السياسية والتنموية التي تدخل ضمن الاهتمامات الأولية للدولتين، وأنهى سنة كاملة من القطيعة الدبلوماسية والأجواء المحتدمة بين البلدين، وعزز دور تركيا المستقبلي في المنطقة وجعلها ضامنا في تنفيذ الاتفاق وتكملة مراحله المتبقية .
وبالإضافة إلى ذلك، اتفقت الدولتان على تجاوز القضايا الخلافية بينهما والمضي قدما في مسار التعاون الثنائي بين الدولتين وذلك من أجل تحقيق الرخاء المشترك لشعبيهما.
كما يقدر الإعلان، التضحيات التي قدمها الجيش الإثيوبي للصومال في إطار الاتحاد الإفريقي والفوائد المختلفة التي تأتي من ضمان إثيوبيا للوصول الموثوق، الآمن والمستدام من وإلى إلى مياه البحر تحت سلطة الدولة الفيدرالية للصومال. ويشدّد الإعلان، اتفاق الدولتين على التعاون الوثيق بينهما لانهاء الترتيبات التجارية ذات المنفعة المتبادلة من خلال الاتفاقيات الثنائية بما في ذلك العقود والاستئجار والأنماط الأخرى المماثلة فضلا عن بدأ مفاوضات فنية ستنتهي إلى اتفاقيات ثنائية خلال شهرين كأقصى حد والتوقيع عليها خلال أربعة أشهر مع توفير تركيا كافة التسهيلات اللازمة لانجاح تلك المفاوضات، ورحبت الدولتان مساعدة تركيا في تنفيذ هذه الالتزامات وتعهدها لحل الفروق والتفسيرات المختلفة من خلال الحوار واستعدادها المساعدة عند الضرورة أو الاحتياج. وأخيرا، عبر رؤساء الدولتين تقديرهما لفخامة رئيس جمهورية تركيا السيد رجب أوردغان على دعوته والتزامه القائم للعملية .
لماذا قبلت الدولتان للتسوية بعد فترة من تكشير الأنياب؟
• قبلت الدولتان الاتفاق لاعتبارات عديدة ومتماثلة من حيث الطبيعة أو الموضوع ، وقد يكون أهم تلك الاعتبارات رغبتهما الملحة في التركيز على التحديات الداخلية الآخذة في الاتساع والتموج والتفرغ لحلحلة الأزمات المعقدة والمركبة المتزايدة في البلدين. وبرهنت الدولتين على مر الشهور الـ 12 الماضية قدرتهما على تفعيل بعض من أوراق الضغط الموجودة عند كل طرف ضد الآخر في ملفات مختلفة وبالتالي اقتنعت قيادة الدولتين على أن استمرار التوتر بوتيرته الحالية سوف يؤثر سلبا على أوضاعهما الداخلية الغير المستقرة، وقد تصل موجات الأزمة إلى التفاعل مع أقطاب وقوى المعارضة في الداخل والتعامل مع الجهات والدول في الخارج التي يوجد بينهما خصومات سياسية معقدة ومنافسات ممتدة. وبالإضافة إلى ذلك، أدركت قيادة إثيوبيا فداحة الخطأ السياسي الذي ارتكبته في توقيع مذكرة التفاهم مع هرجيسا في 1 يناير 2024 وتعرضت سمعتها الدولية لضرر بالغ، واصبحت صورتها أمام العالم على أنها دولة منتهكة للقوانين الدولية الناظمة للعلاقات الثنائية بين الدول ومعتدية على سيادة دولة أخرى ذات عضوية في الكثير من المحافل الدولية والإقليمية المشتركة بينهما وهو سلاح دبلوماسي نافذ استخدمته سابقا ضد الصومال ببراعة، وبسبب تداركها ذلك، هرولت إلى طلب المساعدة من أكثر من دولة لإيجاد مخرج دبلوماسي لمعضلتها الدبلوماسية وربما خشيت كذلك أن تزداد صورتهما الدولية سوءا وتحوّل قواتها في البلاد إلى قوات احتلال، وتتراجع عندها فرصتحقيق التنمية الاقتصادية التي تريد إثيوبيا إيجاد شركاء دائمين لها، ومن بينها تركيا نفسها.
• وإلى جانب هذا كله، فان البلدان يمرّان بمرحلة مصيرية صعبة للغاية في تاريخهما السياسي المعاصر، وتتمثل تلك المرحلة وجود تحديات تنموية متقاربة واتساع الفجوة بين الولايات والسلطة الفيدرالية والحاجة الملحة لتثبيت السلم الأهلي بين المكونات المختلفة لأبناء الدولتين فضلا عن رغبتهما في الاستعداد لانتخابات رئاسية مرتقبة في عام 2026م. ويبدو أن البلدين طال عليهما فترة الانتقال من النظام السلطوي السابق المتجذر في بيئتيهما السياسية إلى النظام التعددي في هيكل البناء السياسي والديموقراطية في الحكم وإيجاد صيغة حكم توافقية مستقرة تؤدي إلى الانتقال السلس في الحكم عند انتهاء الفترات الدستورية للنظم السياسية. وإثيوبيا بالذات، تقف على مفترق طرق حقيقي يصعب عليها الحفاظ على التركة السياسية التي خلفها إمبراطور منيلك الثاني ( 1844-1913 ) ومن جاء بعده، وتواجه عجزا متناميا في القدرة على دمج القوميات في إطار وطن واحد وموحد، وإدارة الاختلالات الدائمة الاتساع بين عدد السكان والمساحة الجغرافية وبين الموارد المتاحة وأصبح وضعها السياسي شبيه إلى حد ما كمن ابتلع لقمة كبيرة سائغة لا يستطيع بلعها ولا هو يريد أن يلقيها إلى الأرض بسبب حاجته إليها ناهيك عن التباين المتعمد في مستوى التنمية والخدمات بين الولايات فيما بينهما وزيادة الانفاق العسكري على ميزانتها السنوية وأعباء الديون الخارجية على كاهل اقتصادها المتعثر.
• وإذا كانت أزمة إثيوبيا السياسية ناتجة عن عجز متوالي من قبل أنظمتها السياسية المتتابعة في إدارة خريطة وطن يضم قسرا قوميات متنافرة لا يوجد فيما بينها أية سوابق حكم مشترك، فان الأزمة السياسية في الصومال ناتجة عن صعوبة إدارة خريطة طبيعية متجانسة الأركان ومقطوعة الأوصال عمدا من قبل القوى الاستعمارية بما في ذلك إثيوبيا التي أخذت عنوة بالقسم الأكبر منها سابقا بمساعدة أوروبية معروفة الأهداف ومعلومة المراحل والأثر. ومنذ الاستقلال، ذهبت قيادة الأنظمة السياسية المتعاقبة على حكم البلاد سابقا بالاتجاه نحو لملمة الذات وتجاوز آثار الاستعمار وإذابة التمايزات التي خلفها وجوده العابر ( 70-80 سنة) وبناء المؤسسات الوطنية إلى أن انهارت الدولة بشكل نهائي عام 1991 وبالتالي تدفع الجمهوريات الوطنية الناشئة ما بعد 2000 ثمن تلك السياسات الوطنية السابقة وتعيش على ارتدادتها السياسية بطريقة أوبأخرى. ومعظم التحديات الرئيسية التي تواجهها البلاد يرجع مصدرها الأساسي إلى تبعات ذلك الإنهاك الناجم من الجهود المتوالية نحو تحقيق الوحدة القومية عبر المسارات المختلفة وقلة الزاد المعرفي في حسن التعامل مع طبيعة الأوضاع الدولية ما بعد الحربين العالميتين وربما أيضا ضعف المناعة الوطنية في مواجهة الموجات المضادة لهذا الاتجاه .
وتتقاطع وجهات النظر بين الصومال وإثيوبيا على النقطتين التاليتين:
النقطة الأولى:
هي أن الصومال تعتبر المرحلة الاستعمارية استثناءا عابرا وخسارة كبيرة في مكاسبها الماضية على مستوى الأصعدة بحيث يجب على الصوماليين أن ينفضوا عن أنفسهم في تلك المرحلة، ويطمحوا إلى التجاوز من آثارها العدوانية المنكشفة وذلك بدءا من التقسيم وصولا إلى التفكيك والقتل المروع والاهمال المتعمد بعد الاحتكار واختطاف مصيره، بينما الأخيرة تعرف العهد الاستعماري بأنه إرث سياسي محمود ينبغي العض عليه بالنواجذ ومكسب استراتيجي يجب الحفاظ عليه إلى آخر الرمق، وبوجود تلك القوى الاستعمارية أو بمساعدتها المتعددة الجوانب اكتسبت أن تكون قوة إقليمية طامحة أن تكون قائدة المنطقة.
النقطة الثانية:
أن ما كانت تقدمه إثيوبيا للصومال في مرحلة ما بعد الانهيار من الأسلحة إلى زعماء الفصائل القبلية ودعم الأنظمة الموالية وحماية الشخصيات العاملة معها في داخل الأنظمة الوطنية المختلفة بالطرق المختلفة وعرقلة المساعي المستهدفة إلى بناء الدولة الموحدة وتصدير نموذج الفيدرالية العرقية وتأليب الولايات المتمخضة عن الجبهات ضد السلطة الفيدرالية مؤخرا؛ تعتبره تضحيات جسيمة عملتها للصومال بينما الصوماليون يعرفون أن ذلك هو تنفيذ أجندة تريد من خلالها منع عودة الصومال الموحد وإزالة العقدة أو التهديد الاستراتيجي لبلدها .
وسابقا، فهمت إثيوبيا المساعي الصومالية الهادفة إلى تحقيق الوحدة القومية بأنها نزعة توسعية (Irredentism) خطيرة مهدّدة لتماسك خريطتها السياسية في المستقبل وليس توحدا طبيعيا بين أهلها المنقسمين رغم أنفهم، وتفهم الصومال ما قبل الانهيار باعتباره مصدر تهديد وجودي لوحدتها السياسية وعقبة كأداء لدورها الإقليمي الذي يحمل طابع الهيمنة. وسابقا، اعتمدت القيادة الإثيوبية ما قبل آبي أحمد باحتواء الصومال عبر الإطار الإفريقي سواء تمّ ذلك عبر منصة ايغاد أوالاتحاد الإفريقي، وعملت بشدة إلى اضعاف السلطة المركزية عن طريق تغذية نزعة الانفصال بين الشمال والجنوب ودعم الجبهات القبلية الوليدة للولايات الحالية وفرض حالة عدم الاستقرار السياسي في الداخل عبر دفع النموذج الفيدرالي وخلق قيادات سياسية موالية لها وهي كلها سياسات كتبها الإثيوبيون أنفسهم على هذه الطريقة أوالصورة ومن بينهم الاكاديمي الإثيوبي المعروف بإنتاجه الاكاديمي الذاخرBelete Belechew Yihuin وذلك بالاعتماد على مستندات سياسية ووثائق تاريخية موجودة في الأرشيف الحكومي في إثيوبيا وليس كلاما انشائيا أوتفسيرا تآمريا في تاريخ العلاقة السياسية المعاصرة بين البلدين، ومن ثمّ يعتبر انتشار أوضاع عدم الاستقرار السائدة في البلاد وتهريب الأسلحة من حين لآخر ودوامة الأزمة الدستورية العالقة في البلاد منذ الفترة وتعكير العلاقة بين هرجيسا ومقديشو كلها انعكاس لسياسة إثيوبية سابقة تخدم استراتيجية معتمدة سلفا ومنبثقة من عقيدة سياسية متجذرة في تصورها السياسي .
مكاسب الأطراف في إعلان الاتفاق
ييدو أن صورة الاتفاق في الاعلان أقرب إلى تسوية سياسية بين الدولتين دفعتها تركيا إلى الوصول عاجلا قبل نهاية العام وذلك بالتعاون مع بعض الدول الأخرى التي ترتبط مع الدولتين بمصالح مختلفة ومؤثرة بشكل أو بآخر على قرار الدولتين، ودفعتهما بالتراجع عن سقف طموحاتهما في لقاء أنقرة. حققت الصومال، ضمان السيادة والوحدة الوطنية لبلادها، واعتماد مواثيق الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي وكذلك القانون الدولي أساسا في علاقتها السياسية غير المستقرة مع إثيوبيا، وأبعدت فرضية الحضور غير التجاري في مياهها البحرية وضمنت مسؤولية تركيا في المشاركة على تحقيق بنود الاتفاقية. وإثيوبيا من جانبها أمنت شرعية الوصول الموثوق، الآمن والمستدام إلى الموانئ الصومالية وتنوع الوسائل المتاحة عندها ما بين العقود والاستئجار والوسائل الأخرى الممكنة للاستفادة من تلك الموانئ المتنوعة، وانتزعت من الصومال تقدير تضحيات جيشها في الصومال، وضمنت من جانبها مسؤولية تركيا في العمل معها على تنفيذ الاتفاق مع الصومال. والدول الأخرى الفاعلة في المنطقة سواء الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا والصين أو المتوسطة مثل تركيا والإمارات حققت أهدافها الرئيسية في التسوية، وكانت جميعها مدركة على أن استمرار التوتر بين الدولتين الرئيسيتين في منطقة القرن الإفريقي (الصومال وإثيوبيا) سيؤثر سلبا على تحقيق مصالحها الحيوية في المنطقة وايقنت أن مصالحها الحيوية مرتبطة بالحفاظ على الشرعية الدولية وسيادة الاستقرار السياسي ووجود التعاون السلمي بين الدول في المنطقة وذلك بدءً من المصالح التنموية المتعددة والطاقة وصولا إلى محابهة الإرهاب وقطع الصلة المتنامية بين النفوذ الحوثي وحركة الشباب الإرهابية في المنطقة .
وشجع الدولتين على الوصول إلى الاتفاق ثقة الطرفين المتوازنة في وساطة تركيا وعزمها الثابت في احتواء تمدّد الأزمة الدبلوماسية المتفاقمة بين شركائها الرئيسيين في المنطقة بأسرها والتعامل معهما من موقع حيادي حريص على ربط مصالحها العريضة في المنطقة على إنهاء التوتر القائم فيما بينهما. ويبدو أن كلا الدولتين وجدتا في الاتفاق ما يضمن الحد الأدنى من أهدافهما الأساسية في أية تسوية محتملة بينهما، حيث أن الصومال كانت متمسكة بالسيادة على أراضيها والوحدة الوطنية لبلادها واتخاذ القانون الدولي والمواثيق المشتركة بينهما أساسا في العلاقة السياسية مع إثيوبيا، وكذلك ابعاد شبح الحضور الإثيوبي العسكري في مياهها الاقليمية؛ بينما إثيوبيا كانت متمسكة بضرورة موافقة الصومال في تأمين مصالحها التجارية المرتبطة بوجود منافذ بحرية متنوعة في مياهها الإقليمية وانتزاع تقدير أهمية بقاء جيشها وشرعنة وجوده في الصومال باعتبار أنه خط الدفاع الأول لحماية حدودها الشرقية من الاختراقات المحتملة للإرهاب ومصدر دعم مادي لميزانية جيشها، مما يعنى ان الاتفاق كان عبارة عن رد الاعتبار للصومال بعد المساس بكرامة سيادته الوطنية وحفظ ماء الوجه لإثيوبيا ومنحها مخرجا دبلوماسيا لسعيها المستمر للوصول إلى الموانئ الصومالية باتفاق مباشر مع الجهة الشرعية. ويمكن وصف الاتفاق بأنه انعكاس مباشر لتوافق مصالح دولية متعددة الاتجاهات ومتشعبة إلى مصالح آنية وأخرى آجلة مع أولويات إقليمية مهتمة بالاستقرار الداخلي والتنمية الاقتصادية ومنهكة بالحروب المستنزفة، وترى السلام خيارا يمكن عن طريقه تحقيق أمنيات الشعوب وخطط الدول وروئ القيادة .
الفرص والمخاطر المحدقة بالإعلان
الفرص
يعدّ إعلان أنقرة انجازا دبلوماسيا محسوبا للصومال إذا ما تم التعامل مع المفاوضات الموقوتة بما يتناسب مع أهميتها السياسية والاستعداد لها على المستوى الذي ينبغي. ويمكن القول، بأن الإعلان يعكس قرار الدولتين الالتقاء في منتصف الطريق مبكرا ويثبت مراجعة إثيوبيا على طبيعة موقفها الدبلوماسي المهيض الجناح واستجابة واضحة على معظم المطالب التي كانت تطلبها الصومال من إثيوبيا على مدى العام وليس العكس. ومن الضروري الفهم على أن ما حدث ليس الاتفاق بعينه وإنما هو التوافق على إعلان مبادئ محدّدة تفضي إلى خفض منسوب التوتر المتصاعد وتمهد الوصول إلى الاتفاقيات الثنائية المقبلة. وقد تكون المفاوضات المجدولة انطلاقها بداية العام المقبل أصعب وأعقد من جولات المحادثات غير المباشرة السابقة بكثير لأنها تتضمن تفاصيل مختلفة وسيكون لها أبعاد شائكة ومتعدّدة. والفرص التي يوفرها الإعلان للأطراف المختلفة تكمن اعتماده كأساس متين في المفاوضات الموقوتة ووجود وسيط حائز على ثقة الدولتين إلى جانب ظهور دول أخرى قادرة على التأثير وداعمة لموقف تركيا بقوة وتدفع أجندة التعاون بين دول المنطقة بدلا من الصراع فضلا عن فرضه على الطرفين التزامات سياسية من الصعب التراجع عنها بسهولة على المدى المنظور. و سوف يساهم الإعلان على عودة الثقة المهتزة بين الدول الأعضاء في منظمة إيغاد والمتضررة من الخطوة الإثيوبية المفاجئة ويعيد مجالات التعاون المتجمدة إلى مجاريها الطبيعية ويؤدي إلى التجاوز من حالة البلبلة التي خلقها تصرف آبي في موضوع المذكرة مع هرجيسا على الدول في الإقليم خصوصا إذا ما اقترن ذلك من جانب إثيوبيا بالخطوات العملية المؤكدة على الاحترام الكامل لسيادة دول الإقليم الأعضاء معها في منصة إيغاد، وبالتالي من الممكن أن نشهد عودة نشاط الأمانة العامة بين دول إيغاد في الفترة المقبلة بعد أن كان نشاطها مشلولا طوال هذ العام.
وبالإضافة إلى ذلك، سيمنح الإعلان تركيا دورا جديدا أكثر ديناميكية من دورها السابق في المنطقة وستكون عندها القدرة على حلحلة أزمات أخرى عالقة وشائكة في دول أخرى من بينها السودان وعبرت استعدادها في العمل على إنهاء الأزمة الدبلوماسية القائمة بين السودان والإمارات مؤخرا وبين مصر وإثيوبيا سابقا وسيساعدها على ذلك معرفتها بطبيعة التشابك بين منطقة القرن الإفريقي وإقليم الشرق الأوسط وتزايد اهتماماتها المختلفة في المنطقة ومستوى علاقاتها المتوازنة مع الدول الإقليمية الفاعلة في الشرق الأوسط وكذلك القوى الكبرى بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا وكذلك الصين، والزيارة المتوقعة للرئيس أردوغان بداية العام المقبل، سوف تعطي دفعة قوية في هذ الإتجاه. والإعلان سوف يعطي الدولتين فرصة لترتيب أوراقها السياسية من جديد وإعادة الأولويات والتركيز على أوضاعها الداخلية بما في ذلك التوجه نحو المصالحة السياسية مع شركائهما في القرار السياسي وإخماد بؤر التوترات المشتعلة في بلديهما وتحديدا الصومال التي تريد إعادة اطلاق العمليات العسكرية ضد الإرهاب والتركيز على المقاربات الداخلية وتطوير المرافق الخدمية للدولة ومدّ الأيدي إلى الإدارة الجديدة المعتدلة في هرجيسا وذلك لبدء ترتيبات سياسية تقود في نهاية المطاف إلى إجراء انتخابات توافقية في البلاد على مدى العامين المقبلين.
المخاطر
• ومع تلك الفرص الواعدة التي يوفرها الإعلان للطرفين إلا أنه لا يخلو من بعض المخاطر المحيطة بتنفيذ بنوده الموضحة في الاتفاق، حيث أنه من الممكن أن يتراجع أحد الأطراف عن المضي قدما في الذهاب إلى الخطوة التالية وهي الدخول في مفاوضات فنية على اعتبار أنه غير ملزم بطبعه قانونيا. وطبقا للمفهوم والمعنى القانوني، فان الإعلانات (Declarations) والبيانات (Communiqués) تمنح الثقة وتوطد المصداقية وتفتح الأبواب المغلقة بين الأطراف المعنية ولكن ليس لها صفة إلزامية للطرفين أوالأطراف المتفقة فيما بينها ، كما أنها لا تفرض أية جزاءات قانونية على تلك الأطراف في حالة عدم الامتثال لبنودها أوعدم الالتزام بمضمونها العام، ومن ثمّ، فان المفاوضات تحتاج من الصومال إلى المواءمة بين الحماية اللازمة للسيادة الوطنية للدولة والحفاظ على المصالح الاقتصادية الضرورية لبناء الدولة في الاتفاقيات المنفصلة المتوقعة بين البلدين. وهناك مؤشرات صادرة من إثيوبيا توحي رغبتها الجمع بين المضي قدما في التفاوض مع الصومال والتمسك بمذكرة التفاهم مع هرجيسا، ومن الوارد أن تتعامل مع الإعلان على أنه إنجازٌ يُضافُ إلى أرصدتها السابقة، وقد لا تعتبره مناقضا للمذكرة الملغية من جانب الصومال أو هو بديل كلي عنها.
• ومن الممكن كذلك أن تتذرع إثيوبيا بأنها غير ملزمة بمضامين قانون UNCLOS المنظم لكيفية الاستفادة المتبادلة بين الدولة الحبيسة والدولة البحرية مادام أنها غير مصادقة على هذه الاتفاقية المعروفة باتفاقية قانون البحار الدولي . ويمكن أن يكون هناك انسداد في الوصول إلى الاتفاق أو التوافق على تقديم أحد الوسائل المتنوعة المذكورة في الإعلان عن الأخرى كالعقود والاستئجار حيث يمكن أن تعرض الصومال على الطاولة خيار العقد مثلا وفقا لصلاحيتها السيادية وتتشبث إثيوبيا من جانبها بوسيلة أخرى غير موجودة في الاعلان مثل الاستثمار بسبب ورود كلمة ” طرق مماثلة –Similar Modalities ” في الإعلان كخيار متاح وبشكل غامض غير محدّد المعنى.
• ومن الممكن أن نشهد تعثرا في اختيار مواقع الميناء البحري التي تريد الصومال عرضها لإثيوبيا والميناء الذي ترغب إثيوبيا أو تستهدف الوصول إليه، وربما يحدث خلاف على الفهم المشترك في بعض الكلمات ذات الدلالات القانونية مثل حق العبور (Transition Right ) المنصوص عليه في اتفاقية UNCLOS وحق الوصول ( Access Right) الوارد في الاعلان. ومن المخاطر المحتملة المحيطة بالإعلان رؤية الوسيط التركي للصومال بأنه هو الطرف الذي عليه أن يبدي مرونة أوتنازلات أكثر مقابل التغاضي على التصلب في مواقف إثيوبيا أوالتهاون على المداهنة المعروفة في نهجها التفاوضي لأسباب آنية مركبة، وقد تلجأ إثيوبيا بالتلكؤء في التجاوب الايجابي مع الصومال على تحصين موقفها السيادي على أراضيها في المرحلة اللاحقة والقيام ببعض التصرفات التي تظن أنها منفصلة نسبيا عن موضوع الوصول إلى المواني الصومالية ولكنها تؤثر سلبا على استعادة الثقة المهتزة، ومن ضمن تلك التصرفات المحتملة تأخرها في سحب الحشود العسكرية والجيوش التي أدخلتها في بعض المحافظات التابعة لسلطة جوبالاند، وتعاملها المنفصل والمباشر مع الولايات والمضي قدما في إرسال الأسلحة اليهم دون التنسيق مسبقا مع السلطة الفيدرالية والاستمرار في دعم أجندة انفصال الشمال عن بقية الصومال، أو بمعنى آخر، فهم إثيوبيا أن محور الإعلان كان هو قضايا المنافذ والموانئ ولا يوجد ضرورة مجبرة على تعديل نهجها السياسي أوتغيير سلوكها الأمني في المجالات الأخرى بينما الصومال ترى أن يكون الإعلان بمثابة نقطة تحول في العلاقة السياسية غير المنسجمة مع الأطر القانونية المنظمة للعلاقة بين الدول على مدى السنوات الماضية .
خاتمة
لا نشك بأن إعلان أنقرة سيكون محطة فاصلة في العلاقة الثنائية بين الصومال وإثيوبيا في المرحلة المقبلة، حيث وصفته أنقرة نفسها بأنه ” المصالحة التاريخية”. ويبدو أن البنود الرئيسية السبعة التي يتكون منها الإعلان متوازنة إلى حد ما حيث أنه يراعي الثوابت السياسية بالنسبة للصومال ويأخذ في الاعتبار دواعي المصالح التنموية بالنسبة لاثيوبيا، وقد لا يكون ذلك الطابع من التوازن ممكنا في حالة توسط دولة أخرى غير تركيا بسبب فهمها المتميز للاهتمامات المتبادلة للطرفين ورؤيتها المستقبلية للمنطقة بشكل عام. وحظي الإعلان بإشادة دولية بتركيا في انجازها لهذا الإختراق الدبلوماسي في فترة قياسية وخصوصا أنه تزامن مع التغيير الدراماتيكي الذي جرى في دمشق والمحسوب إلى جانبها،
كما لقي الإعلان ترحيبا من الدول والمنظمات التي رأت الإعلان على أنه حفظ ماء الوجه لإثيوبيا أومخرجا آمنا من ورطتها الدبلوماسية غير المسبوقة مؤخرا أكثر مما كان فوز الصومال في الحفاظ على سيادتها الوطنية. وشجع الدولتين توقيعهما على بنود الإعلان استجابته للحد الأدنى من مطالبهما الرئيسية في لقاء أنقرة وموثوقية تركيا وقدرتها على ضمان التنفيذ وكذلك رغبتهما الملحة إلى التفرغ للتحديات الداخلية المتقاربة التي يواجهها البلدين في المرحلة الحالية بدءا من أزمة التغيرات المناخية واحتواء بؤر الحروب المتجددة وتجسير الهوة المتسعة بين الولايات والسلطة الفيدرالية ومعالجة التباينات الفكرية ذات الصلة بدستوريهما.
وكانت مرارة التوتر الأخير بين الدولتين أشد وأنكى من سابقيها وذلك لكثرة حسن ظن الصوماليين بآبي من البداية مقارنة بسلفه من المسؤولين وانحدراه من قومية الأورمو التي تقاسمت مع الصوماليين القهر والاضطهاد والتهميش القادم من القيادات غير الأورومية، ومن ثمّ توقعت منه الأمان على أقل تقدير إن لم تجد منه الانصاف لقضيتهم الرئيسية وهي السيادة على بلدهم. والأزمة السياسية بين الصومال وإثيوبيا هي أزمة ممتدة إلى قرون متوالية وبينهما خصومات معقدة متشعبة تتفرع ما بين الأرض والسكان والمنافسة في الحفاظ على التوازن الإقليمي في المنطقة، وتميز منحناها بالتأرجح بين الصعود والهبوط أو بين التوتر المتدرج إلى الحرب المهلكة والوفاق المؤدي إلى الهدوء المتقطع، ويشكل وجود حليف خارجي موثوق ومشترك بين الدولتين عاملا مساعدا في توطيد التهدئة أكثر مما هو مجرد ضامن في تنفيذ الاتفاق الموقع بينهما.
وفي هذا الإعلان، تكون الصومال قد استطاعت فرض شروطها على إثيوبيا لأسباب موضوعية قابلة للمدّ والجزر. ويبدو أن إثيوبيا لم تدرك بعد أهمية التميز ما بين الصوماليين في المشاكل الداخلية والحروب المتجددة وبين قدرتهم السريعة على التلاحم والتجاوز فيما بينهم في حالة الشعور بتهديد مشترك لمصيرهم خصوصا إذ اكان التهديد قادم من اتجاهها ومرتبط بسوابق قديمة معروفة سلفا عند الصوماليين. والهبة الشعبية التلقائية الطابع التي انبرت قواها من الشمال قبل الجنوب وفي بلدان المهجر، وكذلك موقف حركة الشباب الإرهابية من مسألة التوتر قبل رد فعل المؤسسات الرسمية هو خير شاهد على ذلك التلاحم السريع عند اللزوم وفي لحظات استثنائية غير متكررة.
ويمثل الإعلان الخطوة الأولى الممهدة إلى الوصول في الاتفاق النهائي بين الدولين حول الأسباب المؤدية إلى التوتر، ويحمل في طياته مجموعة من الفرص والمخاطر المتشابكة التي تحتاج من الصومال الاستعداد المسبق لها والتعامل معها بشكل مهني. وبالتأكيد، يعطي الإعلان أساسا متينا للدولتين يمكن البناء عليه في الوصول إلى الاتفاقيات المنفصلة المرتقبة، ويفرض عليهما التزامات سياسية متبادلة ويمهد الطريق إلى عودة الثقة المهتزة بين الدول الأعضاء في إيغاد بعد أن تأثرت علاقاتها التعاونية بالتوتر السائد بين الدولتين، وإلى جانب ذلك، ينمي الإعلان دور تركيا السياسي ونفوذها الاقتصادي في المنطقة ويعطيها الامكانية على القيام بالوساطة في أزمات أخرى عالقة في المنطقة. ومن المحتمل تراجع إثيوبيا عن المضي قدما في الخطوات التالية، وأن تطرح على طاولة المفاوضات المتوقعة بعض المقترحات التي لا تنسجم مع السلطة السيادية للصومال ولا تتوافق مع التعهدات المتبادلة المبينة في بنود الاعلان، ويمكن أن تقوم بعض التصرفات المتنافية مع روح الصداقة والاحترام الواضحة في الإعلان على اعتبار أنه ليس له صفة ملزمة قانونيا للطرفين، وأكثر المخاطر خطورة هو رغبتها في الجمع بين المذكرة والإعلان المتناقضين وعدم فهم الإعلان على أنه بداية النهاية على علاقة ثنائية غير منضبطة بالقانون وسارت في الفترة الأخيرة بالمزاجات الفردية المتموجة أكثر من سيرها على نمط الأعراف المتبعة في العلاقات الدبلوماسية بين الدول .