مقديشو برس / بقلم: الصحفي أحمد محمد أحمد
في عمل صحفي إنساني يستحق الإشادة، أجرى الصحفي أيانلي حسين عبدي حوارًا مع أحد الجنود المنسين في تاريخ الصومال، عثمان صبريه فيدو، الذي حمل ذاكرة الحرب والأسر على مدى اثني عشر عامًا. هذه القصة تختزل مآسي الجيل الذي خاض حرب 1977 بين الصومال وإثيوبيا، وتكشف عن معاناة الإنسان في ظل الصراعات المسلحة. أيانلي، المعروف بشغفه بالقصص المنسية، قدّم نافذة نادرة على تجربة أسير نجا من الموت مرات عدة، لكنه دفع ثمنًا إنسانيًا باهظًا.
وُلد عثمان صبريه فيدو في مدينة مقوكوري بإقليم هيران مطلع خمسينيات القرن الماضي. في عام 1976 انضم إلى صفوف الجيش الوطني الصومالي من مدينة آدن يبال بإقليم شبيلي الوسطى، ثم نُقل إلى مدينة بيدوا ليخضع لأحد أفضل برامج التدريب العسكري المتوفرة آنذاك. عن تلك الفترة يقول عثمان: «انضممت إلى الجيش بدافع الحب لوطني وجيشه، فقد كان الجيش محبوبًا ومحترمًا في ذلك الوقت». بعد التخرج خدم في مدينة غالكعيو، ثم بدأ الاستعداد للانتقال إلى الجبهة استعدادًا لحرب التحرير في إقليم أوغادين عام 1977.
تحرك عثمان ضمن القوات المتوجهة إلى شمال البلاد مرورًا بمدينة هرغيسا ، وصولًا إلى منطقة طغحبور ، حيث دارت المعارك الأولى. في البداية حققت القوات الصومالية انتصارات كبيرة وكبدت الجيش الإثيوبي خسائر فادحة، إلا أن دخول الاتحاد السوفيتي وقوات كوبية مسلحة بالطائرات والدبابات قلب موازين الحرب، وأجبر القوات الصومالية على التراجع.
خلال المعارك، أصيب عثمان بجروح خطيرة وأُسر مع جندي آخر كان طبيبًا ميدانيًا. يروي عثمان: «كان الطبيب ذا بشرة بيضاء، فظنوا أنه عربي، فأعدموه فورًا». أما هو فنُقل أولًا إلى مدينة درر طبي ، ثم إلى معسكر عسكري وهو مصاب ودون أي علاج، حيث تعرض للتعذيب الوحشي. لاحقًا أُلحق بمجموعة من الأسرى، وشهد إعدام 75 جنديًا أمامه. ومن مدينة هرر، وتحت ضغط المعارك، نُقل مع 17 أسيرًا إلى العاصمة أديس أبابا، حيث أمضى اثني عشر عامًا من الأسر، تعرض خلالها لسوء معاملة وصفها بأنها «خارج حدود الإنسانية».
يضيف عثمان: «إثيوبيا لم تكن قد أسرت عددًا كبيرًا من الجنود خلال الحرب، لكنها لجأت لاحقًا لاختطاف مئات المدنيين لاستخدامهم كورقة تفاوض». وفي أغسطس 1988، أفرج عن عثمان ضمن صفقة تبادل أسرى، وتلقى استقبالًا رسميًا وشعبيًا مهيبًا في المطار بحضور الرئيس ومسؤولين رفيعي المستوى. بعد خمسة أشهر من الفحوصات الطبية وإعادة التأهيل، حصل على راتب ومنزل وترقية، وعاد للعمل في مطار مقديشو الدولي، قبل أن تنهار الحكومة المركزية في أوائل التسعينيات.
لكن العودة إلى الوطن حملت معه صدمة شخصية كبيرة؛ إذ أُبلغت زوجته سابقًا بأنه قُتل، فتزوجت من رجل آخر وأنجبت منه ستة أطفال. يقول عثمان: «عندما غادرت كانت ابنتي تبلغ شهرًا واحدًا، وعندما عدت وجدتها فتاة في الثانية عشرة، وتعرفت عليها وسط أبناء زوج أمها». عائلته ووالداه تقبلوا فكرة وفاته طوال سنوات أسره، ولم يعلموا بحقيقة نجاته إلا بعد الإفراج عنه.
مع انهيار الدولة، فقد عثمان عمله ومصدر رزقه، بل حتى المنزل الذي منحته إياه الحكومة، لكنه لا يشعر بالندم: «لم أندم على ما مررت به، فقد كنت أدافع عن وطني وشرف شعبي».
قصة عثمان صبريه فيدو ليست مجرد شهادة على قسوة الحروب، بل وثيقة حية عن التضحية والفقدان والوفاء للوطن، وعن جيل كامل دُفن تاريخه في صمت حتى جاء من ينفض عنه الغبار.
كما يبرهن عمل الصحفي أيانلي حسين عبدي على أهمية الإعلام في إحياء القصص المنسية، وإعطاء صوت لمن لا صوت لهم، وربط الماضي بالحاضر، وتعليم الأجيال الجديدة دروسًا في الصمود والتضحيات الوطنية.