مقديشو برس
بقلم: الدكتور عبد الرحمن عبدالله باديو، أكاديمي ومؤرخ وسياسي صومالي، أحد مؤسسي جامعة مقديشو ، ورئيس مجلس الأمناء فيها، وضابط عسكري سابق، ومستشار الرئيس حسن شيخ محمود لشؤون السلام والمصالحة حاليا.
تُعدُّ الطّريقةَ الصّوفيَّةَ الأقدَمَ إذ تأسّست في بغدادَ على يدِ الشَّيخِ عبد القادر الجيلانيّ (توفيّ عام 1166م) ودخلت المناطَقَ الصّوماليّةَ الغربيَّةَ والشّماليَّةَ في أوائلِ القرنِ السّادسَ عشرَ على يدِ أبي بكرٍ بن عبدِ الله العَيدروسّي (توفيّ عام 1502م) من حضرموتَ في اليمنِ. وازدهرتِ القادريّةُ بدايةَ الأمرِ في مدينةِ هررَ التّاريخيّةِ، الّتي تُعتبَرُ حاضرةَ الإسلامِ في القرنِ الأفريقيّ، ومنها انتشرت على يدِ المهاجرينَ العربِ من اليمنِ إلى مقديشو والمناطقِ المجاورة.
لكنَّ الغموضَ يكتنفُ زمانَ وآليةَ انتشارِها من هناكَ إلى البِقاعِ الأخرى من الصّومالِ حتّى القرنِ الثّامنَ عشرَ. ولهذا أضحتْ هررُ بجلاءٍ قِبلةَ الكثيرِ من الصّوماليينَ للسُّكنى والتّحصيلِ العلميّ بعد أن باتت مركزَ التّعلّيمِ الإسلاميّ للإقليمِ بأسرِهِ. وتوردُ السّجلاتُ، علاوةً على ذلكَ، غزوَ إثيوبيا لهررَ عامَ 1887م بُعيدَ انسحابِ مصرَ المتعجّلِ نتيجةً للضغطِ العسّكريّ الّذي شكّلتهُ حركةُ المهديّةِ السّودانيّةُ. وقامَ الأثيوبيّونَ بارتكابِ المجازرِ بحقِّ السُّكّانِ والعلماءِ في المدينةِ وأغلقوا مراكزَ التَّعليمِ واستباحوا أضرحةَ المسلمينَ.
وفي هذه المرحلةِ الحاسمةِ، يخرجُ الإمبراطورُ الإثيوبيّ مينيك متفاخراً ويقول: “هي ذي رايتي رفعتُها فوقَ عاصمةِ الأميرِ عبدِ اللهِ وقد احتلَّت قوّاتي مدينتَه. ماتَ غرن، وخلَفه الأميرُ عبدُ اللهِ في عهدنا. وكما يعلمُ الجميعُ، هذه ليست بلدًا مسلمًا”.
وكانَ من تبعاتِ هذا الغزوِّ أن انتقلَ بعضُ من نجا من العلماءِ إلى أماكنَ بعيدةٍ عن هررَ. وهكذا، حلَّت مدينةُ جِكجِكا محلَّ هررَ لتزدهرَ كمركزٍ جديدٍ للتَّعليم الإسّلاميّ في المنطقةِ. ومن علماءِ القادريّةِ المعروفينَ في جِكجِكا الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ أحمد غولي، والشَّيخُ عمرُ الأزهريُّ، والشّيخُ عبد الله القطبيُّ، والشَّيخُ عبد السّلام حاج جامع، والشَّيخ محمودٌ معلّم عمر، وغيرُهم كُثر.
وقد اتَّخذَ أشهرُ عالمَين، وهما الشَّيخُ عبدُ الرّحمنِ الزَّيلعيُّ والحاجُّ جامعٌ، من مدينَتَي جِكجِكا وقُلنقُول مقرّينِ لهما على التّوالي. انصبَّ اهتمامُ الشّيخِ الزّيلعيِّ على نشرِ الطَّريقةِ القادريّةِ، بينما أنشأَ الحاجُّ جامعٌ مركزَ تعلّيمٍ إسلاميٍّ في جِكجِكا.
ومن خلالِ هَذينِ المركزَين والمراكزِ التّي تفرّعت عنهُما، انتشرَ التَّعلّيمُ الإسلاميُّ والطَّريقةُ القادريّةُ يدًا بيدٍ في الأقاليمَ المحيطةِ وذلكَ في أواخرِ القرنِ التّاسعَ عشرَ وبداياتِ القرنِ العشرين. فضلًا عن ذلكَ، كانت مراكزُ التّعلّيمِ الإسلاميِّ قد تأسَّست في مناطقَ عدَّةٍ من غربِ وشمالِ الصّومالِ، وأشهرُها مركز “الجماعةُ الكبيرةِ” الذي أسَّسه الشّيخ مدرّ أحمد شروع مؤسِّس مدينة هرجيسا، إلى جانبِ مراكزَ أخرى في مدينتَي غبلي وبورما في شمال الصّومالِ.
ونحنُ هنا نقدّمُ في عجالةٍ سيرةَ الشّيخِ مدر أحمد شروع وهو من أوائلِ المصّلحينَ المعروفينَ في منطقةِ شمالِ الصّومال، كما أنّه يمثّلُ تجسيدًا للدّورِ الّذي لعبَه العلماءُ في مراحلَ ما قبلَ الاستعمارِ وبداياتِه في سبيلِ إصلاحِ المجتمعِ وإحياءِ الدَّعوةِ الإسّلاميّة.
يُعَدُّ الشّيخُ مدرُ أحمد شروع شيّخًا صوفيًّا ومصلحًا اجتماعيًّا وفقيهًا. وُلِدَ مدرُ أحمد شروع في هدايتا قُربَ مدينةِ بَربَرة لعائلةٍ بدويّةٍ. أتمَّ حِفظَ القرآنِ في طفولتِه المبكِّرةِ كما تعلَّمَ اللُّغةَ العربيّةَ في كُتّابٍ متنقّلٍ، وهو ما يُمكنُ اعتبارَه مدرسةً ترتحلُ مع ارتحالاتِ البدوِّ الموسميّةِ.
كانت مدينةُ بَربَرةَ ميناءً تجاريًّا على ارتباطٍ بالمدينةِ التّاريخيّةِ هررَ، وغالبًا ما كان العلماءُ والطَّلبةُ والتُّجّارُ يتنقَّلونَ بين هاتَينِ المدينتَينِ. أمّا باقي المدنِ الأخرى الواقعةِ في هذه المنطقةِ فلم تشهدْ أيَّ ملامحَ تطوُّرٍ في هذهِ الفترةِ. وفي الوقتِ الَّذي اُعتبرَت فيه بَربرةُ مركزَ المنطقةِ التّجاريّ، مثّلت هررُ المقرَّ الإقليميّ للتَّعلّيمِ الإسّلاميّ.
وبعدَ استيلاءِ بريطانيا على عدنٍ في العامِ 1839م، باتت مدينةُ بَربرةَ مصدرَ توريدِ المواشي للحاميةِ البريطانيّة فيها. ونتيجةً لهذا الوضعِ، ازدادَ ثَراءُ تُجّارِ الماشية في المنطقةِ مستفيدينَ من فرصةِ التّجارةِ المربحةِ، كما ازدهرَت التِّجارةُ بينَ مدينتَي بَربرةَ وهَررَ بدورها. ولهذا أقدمَ كثيرٌ من الصُّومالييّنَ على الإقامةِ في هررَ سعيًا وراءَ التِّجارةِ والعملِ، كما سكنوا مدينةَ هررَ بصفةِ طلاّبٍ في مراكزِ التّعلّيم الإسّلاميّ.
وبحلولِ عامِ 1855م، أقام َحوالي 2500 صوماليًّا في هررَ، بحَسبِ ريتشارد بورتون، ضابطِ المخابراتِ البريطانيّ، وهو ما يعادلُ ثُلثَ عددِ السُّكّان الإجماليِّ في المدينةِ. ولا غرابةَ في أن يكونَ اثنانِ من أبرزِ ثلاثةِ شيوخٍ في هررَ صّوماليُّونَ ونعنِي بهما الحاجَّ جامع وكبير خليل، وهذا الأخيرُ يعودُ أصلُه إلى منطقةِ بربرةَ على الأرجحِ، وبعدَ إقامتِه في هررَ اكتسبَ نفوذًا كبيرًا بينَ المنحدرينَ من مسقطِ رَأسهِ.
وعلى العكسِ من نظامِ التّعليمِ القائمِ على دعمِ المجتمعِ المحليِّ في أجزاءٍ أخرى من الصُّومالِ، نجدُ الطُّلّابَ في هررَ مسؤولينَ عن توفيرِ الدَّعمِ لأنفسِهم واقتناءِ المراجعِ الدينيّةِ المُكْلفَةِ. ولهذا كانت فرصُ الطُّلابِ الفقراءِ ضئيلةً جداً للالتحاقِ بالدِّراسةِ في هررَ. وقد كانَ والدُ الشَّيخِ مدر من بينِ تجَّارِ الماشيةِ الذينَ أثْرَوا مستفيدينَ من رَواجِ التِّجارةِ في بَربرة، فاستطاعَ بالتَّالي أن يُنفقَ على تعلّيمِ ابنِه في هررَ. درسَ الشَّيخُ مدرُ لمدةِ 20 سنةٍ في هررَ حتَّى غدا عالمًا ذا مكانةٍ وسيّدًا من ساداتِ الطَّريقةِ القادريّةِ. فكانَ أنْ انتدبَهُ معلّمُهُ كبيرُ خليل وكلَّفُه بالعودةِ إلى موطنِه الأصّلِيِّ وأسندَ إليهِ مهمَّةَ الدَّعوةِ إلى الإسّلامِ ونشرَ الطّريقةِ القادريّةِ وحلَّ النّزاعاتِ بينَ القبائلِ، تلكَ النّزاعاتُ التّي أدَّتْ إلى قطعِ طُرقِ التّجارةِ بينَ بربرةَ وهررَ. هناكَ أسّسَ الشّيخُ مدرُ مركزَ “الجماعةِ الكبيرةِ” كمقرٍّ للتّعلّيمِ الإسلامىّ في ستّيناتِ القرنِ التاسعَ عشرَ. كما عبّأَ المشايخَ في المنطقةِ وبنى المساكنَ لأتباعِ جماعتهِ وأنشأَ مسجدَهُ الكبيرَ في العامِ 1883م (المسجدُ الّذي أنشأَه الشّيخُ مدرُ كمركزٍ لدعوتِهِ الإسلاميّةِ لا يزالُ في هرجيسا).
ومن هناكَ اِنطلقت طفرةُ التّعلّيمِ الإسّلامىّ وتمَّ تطبيقُ أحكامِ الشّريعةِ في المجتمعِ، كما انطلقَ العملُ على إحلالِ الوِفاقِ والصّلحِ بينَ القبائلِ المُتناحرةِ، وساندَ الشّيخُ مدرُ في جهودهِ جمعٌ من أقرانِهِ المشايخِ، مِمَّن عادَ بصحبتِه من هررَ، ونذكرُ منهم على سبيلِ المثالِ، الشّيخَ هارونَ شيخ عليّ والحاجَّ فارح إسماعيل اللّذَينِ أرسلهُما إلى مدينتَي بربرةَ وبلحارَ لتعلّيمِ النّاسِ أمورَ دينهم. كما أرسلَ، أيضًا، الشّيخَ أحمدَ بون إلى بربرةَ والشّيخَ كبير عمر إلى بلحارَ.
وبحَسبِ ما ذكرَ عبدُ الرَّزاقِ عقليّ، استفادَ الشّيخُ مدرُ من خبراتِه الّتي اكتسبَها من إقامتِه في هررَ واستغلَّها في إدخالِ ثلاثةِ إصلاحاتٍ على حياةِ المجتمعاتِ البدويّة. كان الإصلاح الأول الذي تبناه الشيخ مدر هو إنشاء مستوطنة دائمة، مبتعدًا عن نمط الحياة البدوي التقليدي الذي يتميز بالهجرة المستمرة بحثًا عن المراعي والأمطار. كان هذا التحول نحو الحياة المستقرة يهدف إلى تحقيق الاستقرار وتسهيل التنمية الاقتصادية للمجتمع.
ركز الإصلاح الثاني على تعزيز الوحدة والتماسك بين أعضاء القبائل المختلفة. أدرك الشيخ مدر الطبيعة الانقسامية للولاءات القبلية وسعى لتجاوز هذه الحواجز من خلال تعزيز الانتماء للطريقة القادرية. هدف الشيخ مدر إلى تعزيز التضامن والتعاون الأقوى بين أعضاء المجتمع من خلال التأكيد على القيم الروحية المشتركة والانتماء الجماعي للطريقة الصوفية. بالإضافة إلى ذلك، قدم الشيخ مدر انتقالًا نحو الزراعة كوسيلة للعيش المستدامة، مشيرًا إلى الإصلاح الثالث في جدول أعماله. واعترافًا بقيود الاقتصاد الرعوي القائم على الرعي والهجرة الموسمية، شجع أتباعه على تبني الزراعة لضمان الأمن الغذائي والازدهار الاقتصادي.
المجتمعات الزراعية التي أسسها الشيخ مدر أحمد شروع في مناطق هرجيسا وجيبلي وبوراما تمثل تجسيدًا حيًا لالتزامه بتحويل البدو إلى مجتمعات مستقرة. من خلال قيادته الرؤيوية وتفانيه في تحسين حياة السكان الريفيين، ترك الشيخ مدر بصمة لا تُمحى على المشهد الزراعي في أرض الصومال، مغنيًا حياة عدد لا يحصى من الأفراد ومرسخًا إرثًا من الصمود والازدهار.
سعى الشيخ مدر إلى تنويع سبل العيش وتقليل الاعتماد على الرعي الهش من خلال تعزيز الممارسات الزراعية ودعم المبادرات الزراعية. سعى الشيخ مدر إلى تحسين رفاهية وازدهار المجتمعات البدوية في الصومال من خلال معالجة التحديات الرئيسية وتعزيز الوحدة والاستقرار والمرونة الاقتصادية
وشهدَ عهدُ الشّيخِ مدر تمدّدَ الحُكمِ التُّركيّ وصولًا إلى المنطقةِ الشّماليةِ من الصّومالِ. وكانَ الشيخُ مدرُ على علاقةٍ جيّدةٍ بالحكّامِ الأتراكِ ومَنْ خَلفَهم مِن بعدِهم من المصريينَ الّذينَ استولَوا على الموانئِ السّاحليّةِ الصّوماليّةِ وفتحوا هررَ بحلولِ العامِ 1875م. لكنّ الانسحابَ المفاجئَ للمصريينَ من هررَ والسَّاحلِ الصّوماليِّ خلَّفَ فراغًا استراتيجيًا ملأهُ الأثيوبيونَ الَّذينَ احتلّوا هررَ عامَ 1887م. مثَّلَ الأثيوبيونَ تهديدًا للقبائلِ الصُّوماليّةِ المنقسمةِ والمكشوفةِ دونَ حمايةٍ، ولذلكَ ألَّحَ الشَّيخُ مدرُ في مناشدتِهِ السُّلطاتِ البريطانيّةِ على مدِّ يدِ العَونِ لمواجهةِ الأثيوبيّين. لكنَّ البريطانيّينَ كانوا على علاقةٍ طيّبةٍ بالامبراطوريّةِ الأثيوبيّةِ الناشئةِ وتجاهلوا الأمرَ. بدا الخيارُ المتاحُ للصّومالييّن محدودًا جدًا، فهم مجردُ قبائلَ متناحرةٍ بلا سلطةٍ تَتبعُ لها وتواجهُ تهديداتِ التمدُّدِ الأثيوبيّ من الغربِ والاستعمارِ البريطانيّ من الشّرقِ. ولافتقارِهم إلى قيّادةٍ سيّاسيّةٍ داخليّةٍ، فضَّلَ الصّوماليونَ الحُكمَ البريطانيَّ على حكمِ جيرانِهم الأثيوبيّينَ. والأسبابُ المعلِّلةُ لهذا الخيارِ المرِّ عديدةٌ، وأهمُّها بالنّسبةِ لتّجارِ الماشيةِ الصّوماليّين، تكرارُ نَهبِ الأثيوبيّين لمواشِيهم لإطعامِ جنوِدهم في الوقتِ الّذي فتحتْ بريطانيا معَهم خطَ استيرادِ الماشيةِ عبرَ مدينةِ بربرةَ.