مقديشو برس
بقلم: الدكتور عبد الرحمن عبدالله باديو، أكاديمي ومؤرخ وسياسي صومالي، أحد مؤسسي جامعة مقديشو ، ورئيس مجلس الأمناء فيها، وضابط عسكري سابق، ومستشار الرئيس حسن شيخ محمود لشؤون السلام والمصالحة حاليا.
عموما، تنقسم مواجهة الصومال للاستعمار إلى مرحلتين رئيسيتين. المرحلة الأولى تبدأ من 1889-1927م ،وتتضمن تفاعلات مستمرة بين العلماء وزعماء العشائر من جهة والقوى الاستعمارية من جهة أخرى. انتهت هذه الفترة بهزيمة سلطان عثمان، زعيم عشيرة المجرتين، الذي استسلم إلى الحاكم الفاشي الإيطالي دي فيكشي عام 1927 بعد عامين من الحرب.
بدأت المرحلة الثانية عام 1943، وشهدت تحولًا في القيادة والنهج. وبين المرحلتين، كان هناك فجوة زمنية استمرت لمدة 15 عامًا من ” التشتت الصومالي” حيث فقد الصوماليون قادتهم المستقلين، وتمّ استخدامهم كمادة في الحرب الإيطالية الإثيوبية (أكتوبر1935- فبراير 1937) الحميمية وذلك في أثناء الحرب العالمية الثانية.
في المرحلة الثانية، قادت النخب القومية جهود الاستقلال ومساعي الحرية، وتحول تركيز القادة من رفض الغزاة إلى تحقيق إنشاء دولة حديثة ومستقلة منذ عام 1943. كانت المرحلة الأولى حربًا دفاعية ضد الغزاة وحماية الإسلام والأرض. على النقيض من ذلك، كانت المرحلة الثانية نضالية سلمية، وتميزت بالتعاون بين مختلف مكونات المجتمع والتعاضد القومي، وذلك بهدف إقامة دولة صومالية حديثة مستقلة وموحدة.
في جنوب الصومال، كانت ردود الفعل الأولية للاستعمار متجزأة وغير منسقة، وظهرت المقاومة الفورية التي تنبع بشكل تلقائي ومستقل من مختلف العلماء والعشائر والسلطنات الصغيرة. على النقيض من ذلك، نفذت القوى الاستعمارية استراتيجياتها باستخدام مزيج من الإكراه والحوافز، مع الاعتماد في كثير من الأحيان على التطورالتقني والأسلحة الفتاكة في جيوشها. تتجلى هذه المقاومة المتفرقة في المواجهات الأولية مثل حوادث مدينة ورشيخ وعدلي ومركة.
ورشيخ هي بلدة تقع على بعد حوالي 90 كيلومتراً شمال مقديشو. في عام 1890، بدأت المقاومة المعادية للاستعمار في تلك المدينة، عندما واجه سكان البلدة السفينة البحرية الإيطالية وقتلوا ضابطين منها في البرّ وهما: زافاجليو وبرتوريلو. هذا الحادث أبرز الطبيعة المحلية والعفوية للمقاومة الصومالية ضد الاستعمارالإيطالي. وقد وضعت هذه الصراعات الأولية المسرح لمزيد من التوترات بين الشعب الصومالي والقوى الاستعمارية المتقدمة. بعد الحادث في ورشيخ، ظهرت المزيد من المقاومة في بلدة عدلي في مايو 1891، مما يشكل تصعيدًا ملحوظًا في الصراع بين السكان الصوماليين المحليين والقوات الاستعمارية النازلة.
اتخذ أهل مدينة عدلي، بقيادة شيخ أحمد غبيو (غبيو بمعنى الشاعر)، موقفًا جريئًا ضد الاحتلال الاستعماري. كانت المقاومة ضد إيطاليا تتسبب في خسائر فادحة لـ فخد عبد لي عروني التابع لقبيلة هرتي أبغال، التي ينتمي إليها شيخ أحمد غبيو. حدثت خسائر كبيرة في الأرواح على الجانبين، حيث قتل حوالي 45 مقاتلًا صوماليًا، والعديد من الجنود غير الإيطاليين، وذلك ما لا يقل عن 7 إيطاليين .
أظهرت المقاومة المعادية للاستعمار في عدلي إصرار وعزيمة الشعب الصومالي القوية على الدفاع عن أرضهم ضد القوى الأجنبية. كانت مدينة عدلي المركز الإداري الأصلي لشركة فيلوناردي، التي أسسها فينتشينزو فيلوناردي، باعتباره أول حاكم إيطالي، في عام 1889.بدأ هذا التواجد المبكر في المنطقة الحكم الاستعماري الإيطالي في الصومال. ومع ذلك، كشفت الحوادث في مدن ورشيخ وعدلي عن مقاومة كبيرة من السكان المحليين، مما أجبر لهم على إعادة تقييم الاستراتيجيات الاستعمارية في التعامل مع الشعب والسكان المحليين بشكل عام .
ونتيجة لذلك، تم نقل القيادة الإيطالية من عدلي إلى مقديشو. هذه التحولات في معادلة الصراع بين السكان المحليين والإيطاليين رفعت كلفة أوفاتورة الصراع من قبل إيطاليا، وأدركت على أن السياسات القائمة لا يمكن أن تدوم على المدى الطويل. ردًا على هذه التحديات، قام الشيخ أحمد غبيو، الزعيم الديني والمجتمعي المحترم، بتأليف قصيدة وطنية تحث على المقاومة الدائمة ضد الاستعمارالإيطالي. كلماته القوية دعت الشعب الصومالي للدفاع عن أرضهم وحريتهم. ترجمت القصيدة إلى الإنجليزية، وصداها كانت عميقة وبالغة الأثر في مشاعر السكان، وأصبحت نداءً ووقودا للمقاومة المستمرة. هذا الرد الثقافي والأدبي، أبرزروح المقاومة الصومالية وعزيمتها على مقاومة الهيمنة الأجنبية وحكم الاستعمار. قائلا :
نحن نقاتل من أجل الصومال؛ نقاوم أولئك الذين يرتكبون الظلم؛ ارفضو الكفار الاستعماريين؛ قبل أن تصلكم رياح الموت؛ وتتحول إلى رماد يأكله الديدان؛ نريد أن نظهر للناس من يجب أن يقفوا إلى جانبهم؛ ومؤخرتهم هي الطريق للأجيال القادمة؛ الذين لا نريد لهم أن يُضلّوا!
هذه الأسطر الديناميكية، المأخوذة من قصيدة للشيخ أحمد غبيو، كان لها تأثير في تحريك المقاومة في مدينة ورشيخ ضد القوات الإيطالية. تسببت إثارة القصيدة الشعرية ردًا قاسيًا من الإيطاليين، الذين أرسلوا بعثة عقابية لقمع الاضطرابات. أسفر هذا الرد العسكري عن دمار كبير في مدينتي ورشيخ وعدله وفقدان أكثر من 80 شخصا في عام 1891. ترك ذلك الدمار أثرًا عميقًا على المجتمع المحلي، مع تعمق الكراهية نحو المستعمرين. وبعد المجزرة الإيطالية، قام الشيخ أحمد أبيكر غبيو بتأليف قصيدة أخرى تصور الوجع والظلم الذي يواجهه الشعب الصومالي. تعتبر القصيدة انعكاسا صارخًا للصعوبات التي تحملتها وصمود الشعب الصومالي في مواجهة الصعاب، وقال :
” …. هؤلاء الغرباء جرحوا شرفنا ؛ فهم ليسوا أنبياء أرسلهم الله إلينا ؛ رفضناهم، لكنهم لم يستمعوا إلينا.ويلٌ للذين أتو متأخرين؛عندما كنا نحارب قوة هائلة كهذه،تعرضت شرفنا للإهانة على يد هؤلاء المتطفلين….”
هذا الصوت الذي لا يخلو من نبرة النحب، يعبر عن الألم والخسارة التي تعرض لها الشعب الصومالي على يد الإيطاليين. إشارة إلى جرح الشرف، تتحدث القصيدة إلى الأثر الثقافي والعاطفي العميق للاستعمار على الهوية والكرامة الصومالية وتسلط الضوء على عدم شرعية أفعالهم في نظر الشعب الصومالي، معززًا الشعور بالظلم والمقاومة. يؤكد الشيخ، على ضرورة أهمية الصراع وشدته ويحث المتخلفين الذين جاءوا متأخرين جدًا للانضمام إلى الصراع.
يقترح الشيخ غبيو، أن يقاتل الصوماليين بشجاعة ضد الظروف الصعبة للغاية، وأن تغلب شجاعتهم على القوة وبسالتهم على الوحشية للغزاة والاستعمار. تواصلت المقاومة الفتية حيث قتل ضابط إيطالي يدعى موريزيو تالمون في مدينة مركة في أكتوبر 1893 طعنًا حتى الموت، في اليوم نفسه الذي تم فيه رفع العلم الإيطالي في المدينة. بعد بضع سنوات فقط، قابل ضابط إيطالي آخر، اسمه جياكومو تريفيس، بمصير مماثل في مركة في عام 1897، مما يسلط الضوء على التوتر والمقاومة المستمرة في المنطقة.
على الرغم من البداية المعزولة، تطورت هذه الحالات من المقاومة تدريجيًا إلى معارضة أكثر تنظيمًا وتماسكًا للحكم الاستعماري. في هذه المرحلة المبكرة من المقاومة، كان العلماء وزعماء العشائر مسؤولين في المقام الأول عن الدفاع عن الأرض المسلمة من الغزاة المسيحيين.
قدم هؤلاء الشخصيات الإرشاد الروحي للناس وسخّرت قدراتها الحثية على المقاومة، واستخدموا سلطتهم للإلهام وتنظيم الجهود لمقاومة السيطرة الاستعمارية بثبات. شهدت المقاومة الصومالية ضد الاستعمار تحولًا كبيرًا، حيث أصبحت أكثر تنظيمًا. واحدة من الأمثلة البارزة لهذا الحركة كانت حركة الدراويش، بقيادة السيد محمد عبد الله حسن (1856-1921). حركة مقاومة أخرى في جنوب الصومال ضد الاستعمار الإيطالي، وهي مقاومة بيمال (1896-1908) بقيادة شخصيات بارزة، مثل معلم مرسل يوسف والشيخ أبيكرغفلي.
فهم التاريخ المبكر للحركات المضادة للاستعمار وقادتها أمربالغ الأهمية، نظرًا للوعي العام المحدود بتلك الفترة في تاريخ الأمة المعاصرة. شخصية رئيسية من هذه الفترة هو الشيخ أحمد غبيو، الذي يمثل الدور الهام للعلماء الأوائل في قيادة المقاومة ضد الحكم الاستعماري. مثل السيد محمد عبد الله حسن، استخدم الشيخ أحمد مواهبه الشعرية الفريدة للتعبير عن طبيعة الصراع وطموحات شعبه. تجاوز إرثه ليمتد إلى ما بعد حياته. محمد شيخ أحمد غبيو، المعروف بـ”محامٍي غبيو”،هو ابنه، أصبح أحد أوائل الخريجين من كلية القانون. أصبح سياسيًا بارزًا، ووزير الدستور في أول حكومة بعد الاستقلال في عام 1960. جمعت معظم قصائد الشيخ أحمد غبيو عن طريق حسين شيخ أحمد كدري. وقد نُشرت مؤخرًا كتاب يجمع بين قصائد الشيخ أحمد غبيو عن طريق محمد علمي توحو. علاوة على ذلك، قام جورجيو وعيسي محمد سياد بتحليل لغوي لاثنين من قصائده. من خلال أعماله، يلهم إرث الشيخ أحمد غبيو الأجيال الجديدة لتقدير تراثهم الثقافي والتاريخي الغني.
الاستعمار يظل قضية مستمرة ومدعوة للاهتمام والمتابعة ، على الرغم من أنه يظهر الآن بأشكال مختلفة أكثر دقة. يجب على الجيل الجديد في الصومال أن يصغوا إلى حكمة آبائهم في الشعر والحكمة والمعرفة بشكل عام، مثل الشيخ أحمد غبيو، ويستعدوا للدفاع عن بلادهم من التهديدات التي قد تتنكر بالدين أوتنبع من قوى خارجية تسعى للسيطرة على البلاد بسبب مواردها الغنية وموقعها الاستراتيجي. يجب على الصوماليين الشباب أن يكونوا يقظين للغاية ضد الخصوم المحليين الذين يستغلون الإسلام لتلاعب وقمع شعبهم، وكذلك الجهات الأجنبية السعي للسيطرة على البلاد لمصلحتها.
- ملحوظة: صورة المقالة هي نجل المرحوم شيخ أحمد ، المحامي محمد شيخ أحمد غبيو، الذي أصبح وزير الدستور في أول حكومة بعد الاستقلال في عام 1960.