مقديشو برس
مضت عقود على رحيل توفيق الحكيم، ونحو قرن على ظهوره شابًا يحلم بثورة في الفكر، ثم مفكرًا يرسم ملامح المسرح العربي، فمجدّدًا يوسّع آفاقه، ثم شيخًا يراقب تحوّلات الزمن بعين الحكيم.
كان عصره زمنًا فريدًا، له مفكروه وأدباؤه، وله جمهوره أيضًا. وحين رحل، لم تكن مجرد جنازة أديب، بل وداعًا لعصر كانت فيه الكلمة سلطانًا، والفكر هيبة، والأدب مجدًا.
بهذا انتهت حقبة كان فيها المسرح أداة تفكير، والرواية مرآة للمجتمع، والمثقف صاحب كلمة مسموعة. قد لا يتكرر الرجل الذي أرسى دعائم المسرح الذهني في العالم العربي، وأثرى المكتبة العربية بكتابات متنوعة، ما بين المسرح والرواية والمقال، واستحق بجدارة لقب “أبو المسرح العربي”. لم يكن مجرد أديب يكتب عن السياسة دون أن يكون سياسيًا، أو عن الثورة دون أن يحمل سلاحًا، أو عن القلق دون أن يغرق فيه.
لقد ألهمت عودة الروح الضباط الأحرار، ثم كتب عودة الوعي ليعيد النظر في الثورة ذاتها ناقدًا. وكان هذا الكتاب بمثابة اعتراف صادم للكثيرين، حين قال: “لقد كنت واحدًا من ملايين المصريين الذين خدعتهم الشعارات”.
أما بنك القلق، فقد كان عملًا فريدًا، نقد فيه تصرفات المخابرات، واستشرف حالة التوتر الجماعي وسط التحولات الكبرى. لم يكن قرار نشره في الأهرام سهلًا، فقد أثار جدلًا واسعًا، لكن الرئيس عبد الناصر وجّه محمد حسنين هيكل بنشر الكتاب، قائلًا له: “إذا كان توفيق الحكيم قد نشر يوميات نائب في الأرياف وقت الملكية، ألا يستطيع نشر بنك القلق في وقت الجمهورية؟ هذا رأيه، ومن حقه أن يقوله، لا بد أن ينشر كاملًا بدون أي حذف”.
لم يكن سر الحكيم في مسرحه وحده، ولا في رواياته التي صنعت وعي أجيال، بل في حضوره الطاغي في الساحة الثقافية، وفي عزوفه الاختياري عن الضجيج، وفي فكره الذي كان يشع حتى في صمته. كان الرجل هو من جعل المسرح أفقًا للفكر، ومن جعل الرواية مساحة للتأمل، ومن جعل الصمت نفسه مقالًا يحمل دلالات كبيرة.
ورغم أن المسرح الذهني لم يكن شائعًا في العالم العربي قبله، إلا أن أعماله فتحت الباب لمسرحيات فلسفية لاحقة، وامتد تأثيره إلى الرواية، حيث مهّدت أفكاره الطريق لأعمال نقدية تناقش قضايا المجتمع بعمق. وقد كان هو نفسه مدركًا لطبيعة مسرحه المختلف، حين قال مدافعًا عنه: “لم أكتب لأضحك الجمهور، بل لأجعله يفكر”.
في أحد تصريحاته الشهيرة، قال توفيق الحكيم: “انتهى عصر القلم، وبدأ عصر القدم”، مشيرًا إلى تأثير كرة القدم، الذي طغى على الاهتمام الفكري والثقافي، حيث باتت اللعبة أكثر جذبًا للجماهير من الأدب والفكر. رأى الحكيم أن المجتمع بدأ يولي اهتمامًا أكبر للمتعة السطحية، بدلًا من الانشغال بالأفكار والتأملات العميقة.
وفي حياته الشخصية، كسر الحكيم الصورة النمطية التي رسمها البعض عنه. قيل إنه عازف عن الزواج، لكنه تزوّج وفق شروطه الخاصة، بعيدًا عن الأضواء. قيل إنه كان صارمًا مع ابنه إسماعيل، لكن الحكاية لم تكن بهذه البساطة. فقد اختار الابن طريقًا مختلفًا، واتجه إلى الغناء في فرقة شعبية، وهو ما لم يكن على هوى الأب الأديب. وحدثت القطيعة حين اقترض إسماعيل من والده مبلغًا ولم يسدّده، فطرده الحكيم من المنزل. لكن هنا أيضًا كان لهيكل دور، إذ تدخّل بحكمة، ووضع خطة لإصلاح العلاقة، تضمّنت دفع خمسة آلاف جنيه، مقابل أن يكتب الحكيم مقالًا عن فرقة ابنه، في وساطة تعكس كيف كانت شخصية الحكيم تتداخل بين العقلانية الشديدة والانفعال الأبوي المكبوت.
ورغم مرور الزمن، يبقى توفيق الحكيم علامة فارقة في تاريخ الفكر العربي. صحيح أن المسرح لم يعد كما كان، وأن الرواية فقدت دورها كمرآة للمجتمع، وأن المثقف لم يعد في الصفوف الأولى، لكن فكر الحكيم يظل منارة في الذاكرة الثقافية. لا تزال مسرحياته تثير أسئلة فلسفية، ولا تزال أفكاره تلهم أولئك الذين يبحثون عن جوهر الأشياء، لا عن بريقها الزائل.
ولعل من أبلغ ما قاله في أهل الكهف: “إن العقل إذا نام، فليس معنى ذلك أنه مات”، وهي عبارة تلخص فكرته عن الصراع بين الروح والزمن.
وربما تتغير الأجيال، وتتبدل الاهتمامات، لكن فكر الحكيم يظل شاهدًا على زمن، لم يكن فيه الأدب مجرد كلمات، بل قوة فاعلة تنير العقول. وبينما تتسارع الأيام، وتمضي بنا الحياة، تبقى كلمات لابس “البيريه” جسورًا تمتد إلى عالم الفكر، وتذكرنا بأن المسرح قد يكون خشبة، لكنه أيضًا عقل، وأن الرواية قد تكون حكاية، لكنها أيضًا تأمل، وأن الصمت قد يكون غيابًا، لكنه في بعض الأحيان أبلغ من الكلام.
المصدر: روزاليوسف